فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما فرق بين {وإنه لتنزيل رب العالمين}، {وما تنزلت به الشياطين}، و{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين}، وهن أخوات، لأنه إذا فرق بينهن بآيات ليست منهن ثم رجع إليهن مرة بعد مرة دل ذلك على شدة العناية بهن كما إذا حدثت حديثًا وفي صدرك اهتمام بشيء فتعيد ذكره ولا تنفك عن الرجوع إليه.
ونزل فيمن كان يقول الشعر ويقول نحن نقول كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم واتبعهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم.
{والشعراء} مبتدأ خبره {يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} أي لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون أي السفهاء أو الراوون أو الشياطين أو المشركون.
قال الزجاج: إذا مدح أو هجا شاعر بما لا يكون وأحب ذلك قوم وتابعوه فهم الغاوون {يتبعهم} نافع {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلّ وَادٍ} من الكلام {يَهِيمُونَ} خبر أن أي في كل فن من الكذب يتحدثون أو في كل لغو وباطل يخوضون، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأبخلهم على حاتم، عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرعات ** وبت أفض أغلاق الختام

فقال: وجب عليك الحد فقال: قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَالًا يَفْعَلُونَ} حيث وصفهم بالكذب والخلف في الوعد.
ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين بقوله: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم {وَذَكَرُواْ الله كَثِيرًا} أي كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر وإذ قالوا شعرًا قالوه في توحيد الله تعالى والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والأدب ومدح رسول الله والصحابة وصلحاء الأمة ونحو ذلك مما ليس فيه ذنب.
وقال أبو يزيد: الذكر الكثير ليس بالعدد والغفلة لكنه بالحضور {وانتصروا} وهجوا {مِنْ بَعْدَمَا ظَلَمُواْ} هجوا أي ردوا هجاء من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وأحق الخلق بالهجاء من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجاه.
وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» وكان يقول لحسان «قل وروح القدس معك» ختم السورة بما يقطع أكباد المتدبرين وهو قوله: {وَسَيَعْلَمْ} وما فيه من الوعيد البليغ وقوله: {الذين ظَلَمُواْ} وإطلاقه، وقوله: {أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنه حين عهد إليه وكان السلف يتواعظون بها.
قال ابن عطاء: وسيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا.
و{أيّ} منصوب ب {ينقلبون} على المصدر لا ب {يعلم} لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها أي ينقلبون أيّ انقلاب. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين}.
{على قَلْبِكَ} تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيًا من الله عز وجل، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولًا على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة، و{الروح الأمين} جبريل عليه الصلاة والسلام فإنه أمين الله على وحيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب {الروح الامين}. {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك.
{بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ} واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب {نَزَّلَ}، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسمعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة.
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً} على صحة القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل} أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلًا. وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و{ءايَةً} بالرفع على أنها الاسم والخبر {لَهُمْ} {وَأَنْ يَعْلَمْهُ} بدل أو الفاعل و{أَن يَعْلَمَهُ} بدل {وَهُمْ} حال، أو أن الاسم ضمير القصة و{ءَايَةً} خبر {أَن يَعْلَمَهُ} والجملة خبر تكن.
{وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الأعجمين} كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم.
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} لفرط عنادهم واستكبارهم، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم، و{الأعجمين} جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة.
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أدخلناه. {فِي قُلُوبِ المجرمين} والضمير للكفر المدلول عليه بقوله: {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} فتدل الآية على أنه بخلق الله، وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عنادًا.
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} الملجىء إلى الإِيمان.
{فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} في الدنيا والآخرة. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه.
{فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} تحسرًا وتأسفًا.
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فيقولون أمطر علينا حجارة من السماء، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة.
{أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} أنذروا أهلها إلزامًا للحجة.
{ذِكْرِى} تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإِنذار، أو الرفع على أنها صفة {مُنذِرُونَ} بإضمار ذوو، أو بجعلهم ذكرى لإِمعانهم في التذكرة، أو خبر محذوف والجملة اعتراضية. {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك غير الظالمين، أو قبل الإِنذار.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة.
{وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} وما يصح لهم أن يتنزلوا به. {وَمَاَ يَسْتَطِيعُونَ} وما يقدرون.
{إِنَّهُمْ عَنِ السمع} لكلام الملائكة. {لَمَعْزُولُونَ} لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة.
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} تهييج لإِزدياد الإِخلاص ولطف لسائر المكلفين.
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم روي أنه لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا وناداهم فخذًا فخذًا حتى اجتمعوا إليه فقال: «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا أكنتم مصدقي» قالوا نعم قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط، و{مِنْ} للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره، أو للتبعيض على أن المراد {مِنَ المؤمنين} المشارفون للإِيمان أو المصدقون باللسان.
{فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتبعوك. {فَقُلْ إِنّي بَرِىءٌ مّمَّا تَعْمَلُونَ} بما تعملونه أو من أعمالكم.
{وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. وقرأ نافع وابن عامر {فتوكل} على الإِبدال من جواب الشرط.
{الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إلى التهجد.
{وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} وترددك في تصفح أحوال المجتهدين كما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه الصلاة والسلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن. أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم، وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقًا للتوكل وتطمينًا لقلبه عليه.
{إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله. {العليم} بما تنويه.
{هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين: أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإِثم، فإن اتصال الإِنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك. وثانيهما قوله: {يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونًا وأمارات لنقصان علمهم، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» ولا كذلك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى: {كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}. والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم.
{والشعراء يتبعهم الغاوون} وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسو كذلك وهو استئناف أبطل كونه عليه الصلاة والسلام شاعرا وقرره بقوله: الشعراء: (224) {والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والإبتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والإفتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه وإليه أشار بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226].
{وأنهم يقولون ما لا يفعلون} وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أربابهما وقرأ نافع {يتبعهم} على التخفيف وقرئ بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا} [الشعراء: 227] استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان «قل وروح القدس معك» وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام يقول لحسان «قل وروح القدس معك» وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة السلام قال لله «اهجوا فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل».
{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم وفي أي منقلب ينقلبون أي بعد الموت من الإيهام والتهويل وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد إليه وقرئ أي منفلت ينفلتون من الانفلات وهو النجاة والمعنى أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام. اهـ.