فصل: مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان:

ثم قالت لهم إني لا أريد أن أزعجكم في الحرب، ولو أن قوتكم وعددكم كما ذكرتم خوفا من سوء عاقبة الحرب، لأن الكاسب فيها خسران، فكيف بالخاسر؟
وأني عليمة بها فاتركوني لأرى لكم رأيا غير هذا، فأصغوا لكلامها لأنها من بيت الملك وتعرف عادة الملوك وعواقب الحروب، وقد عرضت لقومها بذلك، لأنها لا تعرف العاقبة إذا خاضت الحرب مع سليمان قبل أن تقف على ما عند سليمان من عدد وعدد، فأخذت الأمر بالسياسة وأحد طرفيها الهدية لانها باطنها خدعة وظاهرها مودة، والحرب خدعة ونتيجة مجهولة من أن يكون الغلب لها أو عليها فقالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} جمعت الضمير تعظيما وتبجيلا لذلك الملك المهدى إليه، لأنها أحست بعظمة وجلالة قدره من كنايه وحامله {بِهَدِيَّةٍ} عظيمة اصانعهم بها على سلامة ملككم وبقاء مجدكم وعزتكم وصيانة دمائكم، فأختبره بها أملك هو أم نبي، فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع عن رأية وإلا حاربناه، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرض منا إلا باتباع دينه ولا قدرة لنا على حرب الأنبياء، لأنهم يعتمدون على اللّه لا على قوتهم، واللّه لا غالب له، قالت هذا وهي مجوسية لا تدين بدين تصديقا لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية 38 من سورة الزمر، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية 81 من الزخرف في ج 2، {فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 35 بقبولها أم ردها، ولنا بعد ذلك نظر نجتمع إليه ثانيا ونتداوله.
وحذفت الألف من {بم} على أنها للاستفهام أي بأي شيء، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، يرجع به المرسلون.
وكانت لبيبة بمخاطبتهم لأنها عاقلة حنكتها التجاريب، وقد ساست الملك والملوك وعرفت دواخلهم واحتكت بالعظماء وخبرت بواطنهم وموقع الهدايا منهم ولأنها تأخذ بالقلوب وتزيل ما فيها فتحيل الحرب إلى السلم، وتجنح إلى الصلح قال صلّى اللّه عليه وسلم الهدية تذهب سخيمة القلب.
وقال تهادوا وتحابوا.
ثم كتبت كتابا إلى سليمان عليه السّلام بينت فيه الهدية، وهي على ما قالوا خمسمائة غلام بثياب جواري وحليهن على خمسمائة فرس مغشاة بالديباج، ولجومها وأسرجتها مرصعة بالذهب والجواهر، وخمسمائة جارية على خمسمائة رمكة بثياب غلمان، وألف لبنة من ذهب، ومثلها من الفضة، وتاج مكلل بالدر والياقوت، وحق فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وأرسلتها مع رسلها، وأمرت عليهم من قومها المنذر بن عمرو، وقالت له أنظر إليه حينما يستلم الهدية، فإن نظر إليك بغضب فلا يهولنّك، لأنه ملك ولسنا بسائلين عنه، وإن ببشاشة ولطف فتواضع إليه، فإنه نبي، وذكرت في الكتاب إن كنت نبيا ميز بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحق وقالت لرأس الوفد إذا عرف ما فيه قل أمرت بأن أطلب منك أن تثقب الدرة وأن تسلك في الخرزة خيطا وزودتهم بالنصائح وسيرتهم، وكان الهدهد يسمع كل هذا وعند ما سار الوفد بالهدايا طار من وكره، وأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوها في ميدان واسع متصلا بعرشه بطول سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه ذهب أو فضة، وأمر بربط أحسن الدواب البرية والبحرية عن يمين الميدان ويساره، وأمر بإحضار أولاد الجن، فأقامهم عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكرسي من جانبه وصف الإنس والجن والوحش والهوام صفوفا بين يديه، محيطين بعضهم ببعض، وأمر بالطيور فصفت بالسماء ونشرت أجنحتها على المعسكر كله، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على الذهب والفضة، رموا بما معهم من اللبن، وقيل إنه ترك من فراش الميدان بقدر ما عندهم من اللبن، فلما جاؤا وضعوا ما عندهم بالمحلات الناقصة خوفا من أن يتهموا بأخذه وهو قيل لا مستند ينقضه قولهم الآتي بتسليم الهدايا ثم تقدموا إليه وأدوا له التحية له التحية وسلموه الكتاب والهدايا، ووقفوا بين يديه وقد هالهم ما رأوا من ذلك المشهد العظيم، فأخذ ما عندهم وفض الكتاب، ونظر إليهم بطلاقة وجه وابتسام، فقال لهم أين الحق، فأعطوه إياه، فقال لهم إن فيه درة غير مثقوبة وخرزة معوجة، قالوا صدقت، ففتحه ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة بفمها ودخلت في الدرة حتى نفذت منها، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها وسلكته في الجزعة، ولأجل أن يعرفهم الغلمان من الجواري أمر بإحضار قسم منهما، وأحضر الماء فأمرهم أن يغسلوا وجوههم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب به الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل وجهه، فأخبرهم بأن المرتدين ألبسة الغلمان هم الجواري، والمرتدين ألبسة الجواري هم الغلمان، ثم رد الهدية وأمر الرسل بإيصالها، قال تعالى: {فَلَمَّا جاءَ} رسل بلقيس {سُلَيْمانَ} بهديتها كتب إليها ما قاله اللّه تعالى: {قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} نكره على عظمه تحقيرا لمادته عنده، لأنه لا يعد ملكه مع عظمته شيئا، ثقة بما له عند اللّه من الكرامة، وقال: {فَما آتانِيَ اللَّهُ} من النبوة والحكم والحكمة والرسالة والملك الذي لا نظير له {خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ} من الملك والمال والجند لأني لا أفاخر ولا أكاثر في حطام الدنيا، ولا أفرح بما أوتيت منها {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 36 ولذلك رددتها إليكم مع عظمها، لتعلموا أن الدنيا بما فيها ليست عندي ببلاغ، كما أنها لا تساوي عند إلهي جناح بعوضة، وان ربي أعطاني منها ما لم يعطه أحدا قبلي ويوشك أن لا يعطيه أحدا بعدي وكل ذلك لا يزن عندي مثقال ذرة لأن همّي وهمتي منصرفان إلى الاخرة ولا أفرح إلا بما يقربني من ربي وأنت أيها الوافد على رأس الذين حملوا هذه الهدية {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} إلى ملكتك ووزرائها بهديتهم هذه، وأخبرهم بما سمعت ورأيت، وقل لهم ان لم يؤمنوا باللّه ويستسلموا له {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها} ولا طاقة لهم عليها {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها} من بلدة مأرب وما حولها من البلاد التي يقطنها جيل سبأ {أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ} 37 مهانون محقرون، قالوا فلما رجع رسلها حائرين بما رأوا وما سمعوا ووصلوا إليها، أخبروها الخبر كله، قالت واللّه لقد عرفت ما هو بملك وأنه لنبي ولا طاقة لنا به، ثم أجمعت أمرها وكتبت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعوا إليه من الدين.
ثم أغلقت على عرشها الأبواب ووكلت به الحرس وأوصتهم بمناظرته، وان لا يخلص إليه أحد، أو يقرب منه، ثم سارت في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، قال ابن عباس كان سليمان عليه السّلام مهيبا لا يبتدىء بشيء حتى يكون هو السائل عنه فجلس يوما على سريره فسمع وهجا، قال ما هذا، قالوا بلقيس نزلت على مسيرة فرسخ منا مطلب جلب عرش بلقيس وإيمانها باللّه فأقبل على جنوده وأشراف قومه {قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 38 وكان غرضه من ذلك أن يريها قدرة اللّه تعالى معجزة له على نبوته {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ} مجلس قضائك بين الناس، وهو من الصبح إلى الظهر، إذ يتصدر فيه لقضاء حاجات الناس من أحكام وغيرها، ثم أكد مقعده وهو على ما قالوا مارد قوي يدعى صخرا يضع قدمه عند منتهى طرفه وكان بعظم الجبل {وَإِنِّي عَلَيْهِ} على الإتيان به وحمله من موضعه إلى هنا {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} 39 على ما فيه قال سليمان لملئه: أريد أسرع من ذلك لأن القوم أظلونا وأريد أن يروه أمامهم عندي {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ} قالوا هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ووزيره ومعلمه وكاتبه، وكان يقرأ الكتب الإلهية القديمة ويحفظ اسم اللّه الأعظم {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال سليمان هات، قال أنت بن النبي وليس أحد عند اللّه أوجه منك، فإن دعوت اللّه كان عندك، قالوا فخر ساجدا للّه تعالى ودعاه بما ألهمه من أسمائه، فجيء بالعرش في الوقت، قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف فبعث اللّه الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل أن اللّه تعالى يعدم جميع الأشياء ويوجدها في كل لحظة، وهكذا إلى انتهاء الدوران بالاستناد لقوله جل قوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية 15 من سورة ق المارة، وانه أعدم هناك وأوجد أمام سليمان في تلك اللحظة، وكان الدعاء الذي دعا به آصف على ما روى عن عائشة هو: يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وعلى ما رواه الزهري هو: يا إلهنا وإله كل شيء لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} بعد أن رفع رأسه من السجود خرّ ساجدا للّه تعالى شكرا على ذلك {قالَ هذا} الفضل الجليل {مِنْ فَضْلِ رَبِّي} العظيم {لِيَبْلُوَنِي} يمنحني ويختبرني {أَأَشْكُرُ} نعمه المترادفة علي {أَمْ أَكْفُرُ} بها وأجحدها {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} يعود نفع شكره إليها إذ به دوام النعم، وهو قيد للنعمة الحاضرة وصيد للنعمة المستقبلة، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره {كَرِيمٌ} 40 بالتفضل عليه لأنه يمهل عبده ولا يعجله بالعقوبة ويكون مسببا لسلبها منه إن لم يشكره عليها، وهذا مما يستعظم ويتردد فيه عقل من لا يعرف عظمة اللّه، على أن الذي يصدق بظهور التلفزيون وهو المدياع الذي يرى صورة المذيع وليس صوته وهو في فعل بعض خلقه، يجدر به ان يصدق بهذا ولا يتردد فيه، لأنه من فعل ربه الذي لا يعجزه شيء، وهو الذي يقدر عباده على أشياء لم يقبلها العقل مما ظهر في القرن العشرين هذا، من البواخر والطائرات كالقلاع والصواريخ والمذياع الراديو ومعامل الكهرباء مما يحار فيها العقل ولا يكاد يصدقها لولا وجودها، وما ندري ما سيظهر لنا بعد من عجائب مكوناته حتى يتبين للكافر أنه الإله الحق الذي لا رب غيره الموجد لكل شيء، راجع الآية 53 من سورة فصلت في ج 2، فلما أقبلت بلقيس بدبدبها وكبكبها وقبقبها.
{قالَ} سليمان لخاصته {نَكِّرُوا لَها عَرْشَها} أي افعلوا به شيئا تنكره من تغيير وتبديل فيه، فوضعوا الدر الأحمر مكان الأصفر، وجعلوا ما في مقدمه في مؤخره وبالعكس، وما بأعلاه أسفله وبالعكس، وعرضوا ما فعلوه به على سليمان، فأعجبه، وقال نعرضه عليها {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} لمعرفته فنستدل بذلك على هدايتها {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} 41 لمعرفته ولا للجواب اللائق بذلك {فَلَمَّا جاءَتْ} وتمثلت بين يدي سليمان واستقر بها المكان أطلعها المرافقون لها من قوم سليمان بأمره على المتاحف ومن جملتها عرشها، إذ وضع بالمتحف {قِيلَ} لها من قبل المرافقين {أَهكَذا عَرْشُكِ} الذي تركتيه في بلادك الذي أخبرنا عنه الهدهد؟ ولم يقولوا أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا لها فيفوت الأمر المقصود من تنكيره، فنظرت إليه وتأملته جيّدا ثم {قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} لم تقل نعم هو، خوفا من الكذب لأنها تركته محصنا بالأقفال محروسا من عظائم الرجال، وتقدمته بالمجيء ولم تقل لا، خوفا من التكذيب، لأنها عرفته هو هو، وان ما أوقع فيه من التغيير لم يبدل هيئته بالجملة، وكان سليمان قريبا من المرافقين لها يسمع كلامها، فاستدل به على كمال عقلها وحكمتها ورجاحتها وتؤدتها من جوابها الحسن، وعدم إظهار ابتهاجها بما رأت، فقال لها سليمان عليه السّلام إنه هو بعينه، وان إغلاق الأبواب عليه، وإحاطته بالحرس لم يحولوا دون قدرة اللّه بجلبه معجزة لي، وطلبا لإسلامك للّه وإيمانك به وتصديقك نبوتي، قالت بلقيس: يا نبي اللّه نحن عرفناك نبيا {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بكمال قدرة ربك وصحة نبوتك {مِنْ قَبْلِها} من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على رسالتك لهداية الخلق {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} 42 لك مؤمنين بربك، مصدقين نبوتك من ذلك الوقت، والا لما جئنا منقادين خاضعين طائعين لأمرك مخبتين لربك لكان لنا معك موقف غير هذا، ولرأيت منا العجائب، وان هذه الجيوش التي جئتك بها نزر يسير من شيء كثير، والهدية شيء حقير من شيء عظيم لا تذكر ولكان الكلام كلاما والهدية زؤاما، فبش سليمان من قولها هذا على ما هو عليه من التعريض بقوتها وغناها وكثرتها، لأنه أنتج هدايتها للاسلام {وَصَدَّها} عن {ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهو التمس بدعوته لها، وحال بينها وبين عبادتها لها {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} 43 خارجين عن طاعة اللّه راسخين في الكفر عريقين به متجاوزين حدود اللّه، لأنها نشأت بين قوم يعبدون الشمس، ولم تعرف غير عبادتهم لها، وهذه الجملة تعليل لسبب عبادتها ثم تقدمها سليمان وجلس على سريره وأمر بإدخالها عليه بعد أن أجريت لها مراسيم الاستقبال والاستطلاع على بعض ما خول اللّه به عبده سليمان عليه السّلام، فجاءت محفوفة بالإكرام والتبجيل {قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ}.
صحن الدار الذي يمر به إلى سرير سليمان، وكان معمولا من الزجاج يجري فيه الماء وفيه أنواع من دواب البحر {فلَمَّا رَأَتْهُ}.
واقعا بين السرير ومدخل القصر ولابد لها من أن تجوزه لتصل إلى سرير سليمانَ {حسِبَتْهُ لُجَّةً} من الماء العميق وإنما عمل لها هذا ليختبرها، كما عملت هي بالغلمان والجواري والدرة لتختبره، إلا أنه لما كان عمل الصرح محكما جدا، إذ كان الماء جاريا في الزجاج على قدره، بحيث لم يترك في المجرى خلاء ما ولذلك ظنته جاريا بنفسه دون زجاج، والا لعرفته، وقيل ان الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي اليه أسرار الجن، لأن أمها منهم، فإذا أخذها وولدت له لا ينفكون عن خدمته وذريته من بعده، فقالوا له إن في عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، وإنه لما اختبر عقلها وأعجبته أراد أن يختبر بقية أوصافها التي ذكروها له عند ما تخوض الصرح، وبالفعل أرادت ذلك {وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها} قالوا فرآها كأحسن النساء قدما وساقا الا أنها شعراء الساقين، ثم صرف بصره عنها وقالَ لها {إنَّهُ} أي ما ترين من الماء هو {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} مملس مستو معمول {منْ قَوارِيرَ} زجاج- جمع قارورة- فلما عاينت هذا الأمر العظيم {قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} قبلا بعبادة الشمس، والآن بكشف ساقي أمام سليمان بعد أن أخلصت له التوحيد،َ {وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} إلى هنا انتهت هذه القصة.

.مطلب جواز النظر إلى المخطوبة والحكم الشرعي فيه:

يستفاد من هذه الآية جواز النظر إلى المخطوبة بوسيلة ما، لا أن تعرض نفسها على الخاطب أو يعرضها وليها عليه كالسلعة عند البيع والشراء، ويتركها تعاشره، أو تسافر معه أو يختلي بها مثل بعض أهل الكتاب مما يخالف أهل المروءة والشهامة الحكم الشرعي جواز النظر إلى المخطوبة لوجهها لمعرفة محاسنها وليديها لمعرفة صحتها فقط، ولا يجوز ان ينظر لغير ذلك، ويحرم ان يختلي بها البتة، أو يخالطها في سفر أو حضر، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا كله محظورا وان أمر الرسول برؤية المخطوبة لا يفهم منه ما يقوله بعض الجهلة بأمر الدين الذين لا يعرفون ماهية الغيرة الإسلامية والأنفة العربية من المعاشرة معها والسير معها إلى النزهة وغيرها، كلا بل المراد أن يترصد الخاطب الجازم للخطبة، لرؤية من يريد خطبتها من كوة أو مرور أو استطلاع حتى يكون على بصيرة منها، فإن أعجبته عقد عليها برغبة كاملة والا انسحب بمعروف دون أن يتكلم بشيء ما عنها، وان سليمان عليه السّلام إذا صح أنه كان مصمما على زواجه بها وقد قيل له فيها ما فيها، جاز له أن يختبرها بذلك تأديا واحتراما، لأن الأنبياء لم يخاطبوا أقوامهم الا بما يدل على مراعاة الأدب الكامل، ولا يقابلون أحدا بما يكره، أنظر مخاطبة ابراهيم عليه السّلام لأبيه في الآية 42 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة موسى لفرعون في الآية 43 فما بعدها من سورة طه المارتين، وكذلك مخاطبة نوح وهود وصالح وشعيب أقوامهم في سورة هود الآية 25 فما بعدها في ج 2 وفي غيرها من السور المارة، ومن آدب ممن يعلمون الناس الأدب الذي تلقوه من رب الأرباب والا كان بوسعه ان يكلفها إراءة رجليها لمن يريد أن تراها عنه، على أن قضية زواجها به لم تثبت بالقرآن إذ انتهت قصتها بإسلامها فقط، ولا يوجد حديث صحيح بذلك، أما الأخباريون فقد ذكروا أنه تزوجها، وان الشياطين عملوا له النورة والحمام لإزالة شعر ساقيها، ولم تعرف النورة ولا الحمام قبل ذلك، وانها ولدت له ولدا، وكان يزورها في محلها كل شهر ثلاثة ايام، إذ أقرها على ملكها في مأرب وتوابعها، وبنى لها ثلاثة قصور حصينة سماها سلمين ويلبسون وعمران، لم ير الرائي ارتفاعها وحسنها وزخرفتها، وقيل إنه زوجها ذا تبع ملك همدان وأمر زوبعة ملك الجن بأن يعمل لذي تبع ما يأمره به، ويفي الأمر كذلك حتى مر سنة على موت سليمان عليه السّلام، كما سيأتي بيانه في الآية 13 من سورة سبأ في ج 2، والحكمة في إخفاء موته عليه السّلام هذه المدة ليظهر الناس كذب الجن بادعائهم علم الغيب، إذ لو علموا بموته ما داموا على أعمالهم الشاقة التي كان يكلفهم بها، قالوا ثم نادى مناد ان سليمان قد مات، وانقضى ملكه وملك ذي تبع وملك بلقيس وبقي لصاحبه الواحد القهار، وجاء في تفسير الخازن بأنه قد ولي الملك عليه السّلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين، فتكون مدة حكمه أربعين سنة، راجع الآية 16 المارة تجد خلافه واللّه أعلم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا} فقال لهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده ودعوا ما يعبد آباؤكم من الأوثان {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ} مؤمن وكافر {يَخْتَصِمُونَ} 45 فيما بينهم كل يرى نفسه محقا في دعواه، وهنا أطلق الجمع على ما فوق الواحد صراحة، وقال من لا يجيزه إن جمع ضمير يختصمون مع أنه يعود إلى اثنين، لأنه في الأصل يعود إلى مجموع الفريقين، ونظير هذه الآية 78 من الأنبياء في ج 2، وهي {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} مع أن الضمير يعود لداود وسليمان فقط ومن أراد غير هذا قال ان الضمير يعود للحاكمين والمحكومين معا، وهناك آية أخرى أيضا بيناها في تفسير هذه الآية هناك فراجعها، وعلى الأولى فيه اشارة على أن الاثنتين جمع وعليه المناطقة والألسنة الأجنبية {قالَ} للكافرين منهم {يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} وهي طلب إنزال العذاب الذي توعدهم به بنيتهم ان لم يؤمنوا به وهو قولهم في الآية 76 من سورة الأعراف {يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا} به من السيئة {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} التوبة التي أرجوها منكم عما سلف من كفركم {لَوْلا} هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} من عبادة الأوثان وترجعون إلى عبادة الرحمن وتعملون صالحا {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 46 بالنجاة من العذاب في الدنيا وبالفوز بنعيم الآخرة.
{قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} من الذين آمنوا بك، إذ أمسك عنا القطر وأجدبت الأرض وهلك المال فأصابنا الضر والبلاء منذ طفقت تدعونا إلى دينك {قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} بسبب كفركم به وما أصابكم من الشؤم مقدر عليكم ومقسوم لكم بأزله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} 47 تختبرون وتمتحنون بتعاقب الخير والشر ليرى الناس أترجعون اليه فيكشف عنكم ذلك، أو تصرون على الكفر فيزيدكم عذابا في الدنيا والآخرة {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} من أبناء أشرافها كلهم {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} فيعملون المنكرات كلها {وَلا يُصْلِحُونَ} 48 أنفسهم ولا غيرهم أبدا دأبهم السعي في الإفساد والإعراض عن الإصلاح، وقد طبعوا على هذا {قالُوا} هؤلاء التسعة الغواة الذين اتفقوا على عقر النّاقة ورأسهم قدار بن سالف المتقدم ذكره مع القصة في الآية 72 من الأعراف المارة، أي تذاكروا بينهم في تدبير الحيلة التي أرادوا بها عقر الناقة {تَقاسَمُوا بِاللَّهِ} تحالفوا كلهم على انها {لَنُبَيِّتَنَّهُ} يريدون صالحا بأن يأتوه ليلا فيقتلوه {وَأَهْلَهُ} معه زوجته وولده {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} إذا سئلنا عنه بعد القتل {ما شَهِدْنا} ما حضرنا {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} محل وزمن إهلاكهم، أي إذا قال لنا ولي دمه ورئيس عاقلته من قتله؟ نقول ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.