فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

المراد بقوله: {فلا رفث} نفيه مشروعًا لا موجودًا، فإنّا نجد الرّفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعًا لا إلى وجوده محسوسًا؛ كقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] معناه: شرعًا لا حِسًّا؛ فإنا نجد المطلّقات لا يتربّصن؛ فعاد النّفي إلى الحكم الشرعيّ لا إلى الوجود الحِسّي. وهذا كقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح أن معناه لا يمسّه أحد منهم شرعًا، فإن وُجد المسّ فعلى خلاف حكم الشرع؛ وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النّهي، وما وُجد ذلك قَطُّ، ولا يصحّ أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادّان وَصْفًا. اهـ.

.قال الفخر:

من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها: أنه تعالى قال: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلًا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج، بل على ذلك التقدير كان الاشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه.
وثانيها: قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم، وثالثها: قوله: {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا: الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} [النحل: 125] وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
إذا ثبت هذا فنقول: لابد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

اتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال: من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلًا: بماذا فسرت قوله تعالى: {ولا جدال في الحج} وأنه وجم لها، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم.
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ}:

.قال البقاعي:

ولما كانت هذه المنفيات شرًا وكان التقدير: فما فعلتم من هذه المنهيات على هذا الوجه الأبلغ عوقبتم عليه عطف عليه: {وما} وقال الحرالي: ولما حمي من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير وهو الإحسان من خير الدنيا، ففي إعلامه تحريض على إحسان الحج بعضهم لبعض لما يجمع وفده من الضعيف والمنقطع فقال: وما {تفعلوا} انتهى. أي يوجد لكم فعله في وقت من الأوقات {من خير} في الحج أو غيره بتوكل في تجرد أو تزود في تزهد أو غير ذلك من القول الحسن عوض الرفث، والبر والتقوى مكان الفسق، والأخلاق الجميلة واليسر والوفاق مكان الجدال {يعلمه الله} الذي له جميع صفات الكمال فيجازيكم عليه فهو أشد ترغيب وترهيب. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة: 197] فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة، فقال: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقال: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} ونهى عما هو شر ومعصية فقال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ثم عقب الكل بقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها: إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى.
وثانيها: أن من المفسرين من قال في تفسير قوله: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] معناه: لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية، كأنه قيل للعبد: ما تفعله من خير علمته، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك.
وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدًا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدًا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب.
ورابعها: أن جبريل عليه السلام لما قال: ما الإحسان؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذًا به وأقل نفرة عنه وخامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}. اهـ.

.قال ابن عرفة:

قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}.
إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ؟
قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير فعل.
قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي جلي، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل. اهـ.

.قال الخازن:

{وما تفعلوا من خير يعلمه الله} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو الذي يجازيكم عليها، حث الله على فعل الخير عقيب النهي عن الشر وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجمال الوفاق والأخلاق الجملية، وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ربط الأنفس عن الشر حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه. وقيل: إنما ذكر الخير وإن كان عالمًا بجميع أفعال العباد من الخير والشر لفائدة، وهي أنه تعالى إذا علم من العبد الخير ذكره وشهره وإذا علم منه الشر ستره وأخفاه فإذا كان هذا فعله مع عبده في الدنيا فكيف يكون في العقبى وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}:

.قال البقاعي:

ولما عمم في الحث على الخير على وجه شامل للتزود وتركه بعد التخصيص أشار إلى أن الخير هو الزاد على وجه يعم الحسي والمعنوي زيادة في الحث عليه إذ لا أضر من إعواز الزاد لأكثر العباد فقال: {وتزودوا} أي التقوى لمعادكم الحاملة على التزود الحسي لمعاشكم الحامل على الزهد فيما في أيدي الناس، والمواساة لمحتاجهم الواقية للعبد من عذاب الله «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وذلك هو ثمرة التقوى؛ والزاد هو متعة المسافر. ثم علل ذلك بما أنتجه بقوله: {فإن خير}، ويجوز أن يكون التقدير: وتزودوا واتقوا الله في تزودكم {فإن خير الزاد التقوى} وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق، فأمر الكل بالتزود سترًا للصنفين، إذ كل جمع لابد فيه من كلا الطرفين قاله الحرالي وقال: وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف: متكل لا زاد معه فمعه خير الزادين، ومتمتع لم يتحقق تقواه فلا زاد له في الحقيقة، وجامع بين التقوى والمتعة فذلك على كمال السنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «قيّدها وتوكل» لأن ذلك أستر للطرفين؛ وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله تعالى في إقامة خلقه وأمره، قال بعض أهل المعرفة: من عوده الله سبحانه وتعالى دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه فقد ملك الزاد فليذهب حيث شاء فقد استطاع سبيلًا انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} ففيه قولان أحدهما: أن المراد: وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لابد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لابد فيه أيضًا من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه:
الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن.
وثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم.
وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال.
ورابعها: أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول.
وخامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية، فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولا قيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون: إنا متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال: وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد: أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت.
وروى محمد ابن جرير الطبري عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي: وهذا بعيد لأن قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} راجع إلى قوله: {وَتَزَوَّدُواْ} فكان تقديره: وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال: فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما: أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني: أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد: وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى. اهـ.