فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (7- 11):

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم، دل على كل من الوصفين، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار إليها أول السورة بما يأتي في السورة من القصص وغيرها، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب المناسب لمقصود السورة، فابتدىء بقصة أطبق فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا، والأقارب على الإيمان فأنجوا، وثنى بقصة أجمع فيها الأباعد على الإيمان، لم يتخلف منهم إنسان، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان، باقتسام الكفر والإيمان، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان، وأصروا على الكفران، فابتلعتهم الأرض ثم غطوا بالماء كما بلغ الأولين الماء فكان فيه التواء.
ولما كان تعلق {إذ} باذكر من الوضوح في حد لا يخفى على أحد، قال دالًا على حكمته وعلمه: {إذ} طاويًا لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه {قال} اذكر حكمته وعلمه حين قال: {موسى لأهله} أي زوجة وهو راجع من مدين إلى مصر، قيل: ولم يكن معه غيرها: {إني آنست} أي أبصرت إبصارًا حصل لي الأنس، وأزال عني الوحشة والنوس {نارًا} فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علمًا مشاهدًا، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال.
ولما كان كأنه قيل: فماذا تصنع؟ قال آتيًا بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ الأهل الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وسترًا.
جازمًا بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم، فكان الأليق به الجزم، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب: {سآتيكم} أي بوعد صادق وإن أبطأت {منها بخبر} أي ولعل بعضه يكون مما نهتدي به في هذا الظلام إلى الطريق، وكان قد ضلها {أو آتيكم بشهاب} أي شعلة من نار ساطعة {قبس} أي عود جاف مأخوذ من معظم النار فهو بحيث قد استحكمت فيه النار فلا ينطفىء؛ وقال البغوي: وقال بعضهم: الشهاب شيء ذو نور مثل العمود، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهابًا، والقبس: القطعة من النار.
فقراءة الكوفيين بالتنوين على البدل أو الوصف، وقراءة غيرهم بالإضافة، لأن القبس أخص.
وعلل إتيانه بذلك إفهامًا لأنها ليله باردة بقوله: {لعلكم تصطلون} أي لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفىء بذلك أي يجد به الدفء لوصوله معي فيه النار، وآذن بقرب وصوله فقال: {فلما جاءها} أي تلك التي ظنها نارًا.
ولما كان البيان بعد الإبهام أعظم، لما فيه من التشويق والتهيئة للفهم، بني للمفعول قوله: {نودي} أي من قبل الله تعالى.
ولما أبهم المنادى فتشوقت النفوس إلى بيانه، وكان البيان بالإشارة أعظم.
لما فيه من توجه النفس إلى الاستدلال، نبه سبحانه عليه بجعل الكلام على طريقة كلام القادرين، إعلامًا بأنه الملك الأعلى فقال بانيًا للمعفول، آتيًا بأداة التفسير، لأن النداء بمعنى القول: {أن بورك} أي ثبت تثبيتًا يحصل منه من النماء والطهارة وجميع الخيرات ما لا يوصف {من في النار} أي بقعتها، أو طلبها وهو طلب بمعنى الدعاء، والعبارة تدل على أن الشجرة كانت كبيرة وأنها لما دنا منها بعدت منه النار إلى بعض جوانبها فتبعها، فلما توسط الردحة أحاط به النور، وسمي النور نارًا على ما كان في ظن موسى عليه الصلاة والسلام، وقال سعيد بن جبير: بل كانت نارًا كما رأى موسى عليه السلام، والنار من حجب الله كما في الحديث: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» {ومن حولها} من جميع الملائكة عليهم السلام وتلك الأراضي المقدسة على ما أراد الله في ذلك الوقت وفي غيره وحق لتلك الأراضي أن تكون كذلك لأنها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهبط الوحي عليهم وكفاتهم أحياء وأمواتًا.
ولما أتاه النداء- كما ورد- من جميع الجهات، فسمعه بجميع الحواس، أمر بالتنزيه، تحقيقًا لأمر من أمره سبحانه، وتثبيتًا له، فقال عاطفًا على ما أرشد السياق إلى تقديره من مثل: فأبشر بهذه البشرى العظيمة: {وسبحان الله} أي ونزه الملك الذي له الكمال المطلق تنزيهًا يليق بجلاله، ويجوز أن يكون خبرًا معطوفًا على {بورك} أي وتنزه الله سبحانه تنزهًا يليق بجلاله عن أن يكون في موضع النداء أو غيره من الأماكن.
ولما كان تعليق ذلك بالاسم العلم دالًا على أنه يستحق ذلك لمجرد ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال، من الجلال والجمال، وصفه بما يعرف أنه يستحقه أيضًا لأفعاله بكل مخلوق التي منها ما يريد أن يربي به موسى عليه الصلاة والسلام كبيرًا بعد ما رباه به صغيرًا، فقال: {رب العالمين}.
ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحًا، قال معظمًا له تمهيدًا لما أراد سبحانه إظهاره على يده من المعجزات الباهرات: {يا موسى إنه} أي الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه {أنا الله} أي البالغ من العظمة ما تقصر عنه الأوهام، وتتضاءل دونه نوافذ الأفهام، ثم أفهمه مما تتضمن ذلك وصفين يدلانه على أفعاله معه فقال: {العزيز} أي الذي يصل إلى جميع ما يريد ولا يوصل إلى شيء مما عنده من غير الطريق التي يريد {الحكيم} أي الذي ينقض كل ما يفعله غيره إذا أراد، ولا يقدر غيره أن ينقض شيئًا من فعله.
ولما كان التقدير: فافعل جميع ما آمرك به فإنه لابد منه، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة، محروس بسور العزة، دل عليه بالعطف في قوله: {وألق عصاك} أي لتعلم علمًا شهوديًا عزتي وحكمتي- أو هو معطوف على {أن بورك}- فألقاها كما أمر، فصارت في الحال- بما أذنت به الفاء- حية عظيمة جدًا، هي- مع كونها في غاية العظم- في نهاية الخفة والسرعة في اصطرابها عند محاولتها ما يريد {فلما رآها تهتز} أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جآن} أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها، ولا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان، بين المراد بقوله: {مدبرًا} أي التفت هاربًا منها مسرعًا جدًا لقوله: {ولم يعقب} أي لم يرجع على عقبه، ولم يتردد في الجد في الهرب، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته، يقال: عقب عليه تعقيبًا، أي كر، وعقب في الأمر تعقيبًا: تردد في طلبه مجدًا- هذا في ترتيب المحكم.
وفي القاموس: التعقيب: الالتفات.
وقال القزاز في ديوانه: عقب- إذا انصرف راجعًا فهو معقب.
ولما تشوفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة، أجيبت بأنه قيل له: {يا موسى لا تخف} ثم علل هذا النهي بقوله، مبشرًا بالأمن والرسالة: {إني لا يخاف لديّ} أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات، وهي وقت الوحي ومكانه {المرسلون} أي لأنهم معصومون من الظلم، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
ولما دل أول الكلام وآخره على أن التقدير ما ذكرته، وعلم منه أن من ظلم خاف، وكان المرسلون بل الأنبياء معصومين عن صدور ظلم، ولكنهم لعلو مقامهم، وعظيم شأنهم، يعد عليهم خلاف الأولى، بل بعض المباحات المستوية، بل أخص من ذلك، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، استدرك سبحانه من ذلك بأداة الاستثناء ما يرغب المرهبين من عواقب الظلم آخر تلك في التوبة، وينبه موسى عليه السلام على غفران وكزة القبطي له، وأنه لا خوف عليه بسببه وإن كان قتله مباحًا لكونه خطأ مع أنه كافر، لكن علو المقام يوجب التوقف عن الإقدام إلا بإذن خاص، ولذلك سماه هو ظلمًا فقال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها فقال: {إلا} أو المعنى: لكن {من ظلم} كائنًا من كان، بفعل سوء {ثم بدل} بتوبته {حسنًا بعد سوء} وهو الظلم الذي كان عمله، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلًا، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف.
ثم علل ذلك بأن المغفرة والرحمة صفتان له ثابتتان، فقال: {فإني} أي أرحمه بسبب أني {غفور} أي من شأني أني أمحو الذنوب محوًا يزيل جميع آثارها {رحيم} أعامل التائب منها معاملة الراحم البليغ الرحمة بما يقتضيه حاله من الكرامة، فايل أثر ما كان وقع فيه من موجب الخوف وهو الظلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}.
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعًا من القصص.
القصة الأولى: قصة موسى عليه الصلاة والسلام:
أما قوله: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ} فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله: {امكثوا} [القصص: 29].
أما قوله: {إِنّى آنَسْتُ نَارًا} فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلًا، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال: {إِنّى آنَسْتُ نَارًا} وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت، وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به، والأول أقرب، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري.
أما قوله: {سآتيكم منها بخبر} فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل، ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال: {سآتيكم منها بخبر} يعرف به الطريق.
أما قوله: {أو آتيكم بشهاب قبس} فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة.
وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسًا وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلًا أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة:
السؤال الأول: {سآتيكم منها بخبر} و{لعلي آتيكم منها بخبر} [القصص: 29] كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن؟ نقول جوابه: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
السؤال الثاني: كيف جاء بسين التسويف؟ جوابه: عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة.
السؤال الثالث: لماذا أدخل {أو} بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معًا؟ جوابه: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده.
وأما قوله تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد.