فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن في النار وَمَنْ حَوْلَهَا وسبحان الله رَبّ العالمين} ففيه أبحاث:
البحث الأول: {أن} أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له بورك.
البحث الثاني: اختلفوا فيمن في النار على وجوه: أحدها: {أَن بُورِكَ} بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور، وذلك هو الله سبحانه {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها: {مَن في النار} هو نور الله، {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكة، وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها: أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلًا للكلام، والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة.
ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال: {بُورِكَ مَن في النار وَمَنْ حَوْلَهَا} وهو قول الجبائي ورابعها: {مَن في النار} هو موسى عليه السلام لقربه منها {مِنْ حَوْلَهَا} يعني الملائكة، وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها: قول صاحب الكشاف: {بُورِكَ مَن في النار} أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {مِن شَاطِىء الواد الأيمن فِي البقعة المباركة} [القصص: 30] ويدل عليه قراءة أبي {تباركت الأرض ومن حولها} وعنه أيضًا {بوركت النار}.
البحث الثالث: السبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولًا وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله: {ونجيناه وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} [الأنبياء: 71] وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتًا.
البحث الرابع: أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله: {بُورِكَ مَن في النار وَمَنْ حَوْلَهَا} يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها.
وقوله: {وسبحان الله رَبّ العالمين} فيه فائدتان: إحداهما: أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية: أن يكون ذلك إيذانًا بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهًا على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع.
أما قوله: {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} فقال صاحب الكشاف الهاء في {إنه} يجوز أن يكون ضمير الشأن و{أَنَا الله} مبتدأ وخبر، و{العزيز الحكيم} صفتان للخبر، وأن يكون راجعًا إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان للتعيين وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.
فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى عليه السلام أنه من الله؟ جوابه: لأهل السنة فيه طريقان: الأول: أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني: قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور: أحدها: أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحدًا منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها: يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغًا لا يكون إلا معجزًا، وهو أيضًا ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها: أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك، فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز، وهذا هو الأصح، والله أعلم.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}.
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قد مر شرحه، ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع: يقال علام عطف قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ}؟ جوابه: على {بُورِكَ} [النمل: 8] لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك، كلاهما تفسير لنودي.
أما قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} فالجان الحية الصغيرة، سميت جانًا، لأنها تستتر عن الناس، وقرأ الحسن {جَانٌّ} على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبة ودأبة.
أما قوله: {وَلَمْ يُعَقّبْ} معناه لم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا مر بعد الفرار، وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} وقال بعضهم: المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
أما قوله تعالى: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة، ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة.
قال الحسن رحمه الله: كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل، فإنه عليه السلام قال: {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى} [القصص: 16] وقرىء {ألا من ظلم} بحرف التنبيه.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوء} فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب، وعن أبي بكر في رواية عاصم {حسنًا}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا} فيه وجهان:
أحدهما: رأيت نارًا، قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنسًا لأنهم مرئيون.
الثاني: أحسست نارًا، قاله قتادة، والإيناس: الإحساس من جهة يؤنس بها.
{سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيه وجهان:
أحدهما: سأخبركم عنها بعلم، قاله ابن شجرة.
الثاني: بخبر الطريق، لأنه قد كان ضل الطريق، قاله ابن عباس.
{أَوْ ءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب الشعاع المضي، ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب، قال الشاعر:
في كفِّهِ صعدة مثقفة ** فيها سنان كشعلة القبسِ

والقبس هو القطعة من النار، ومنه اقتبست النارَ، أخذت منها قطعة، واقتبست منه علمًا إذا أخذت منه علمًا، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار.
{لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تصطلون من البرد، قال قتادة: وكان شتاء.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا} يعني ظن أنها نار، وهي نور، قال وهب بن منبه: فلما رأى موسى وقف قريبًا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا تضرمًا وعظمًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنًا، فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه فخافها فتأخر عنها، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها، إلى أن:
{نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}.
وفي {بُورِكَ} ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني قُدِّس، قاله ابن عباس.
الثاني: تبارك، حكاه النقاش.
الثالث: البركة في النار، حكاه ابن شجرة، وأنشد لعبد الله بن الزبير:
فبورك في بنيك وفي بنيهم ** إذا ذكروا ونحن لك الفداء

وفي النار وجهان:
أحدهما: أنها نار فيها نور.
الثاني: أنها نور ليس فيها نار، وهو قول الجمهور.
وفي {بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} خمسة أقاويل:
أحدها: بوركت النار، و{مَن} زيادة، وهي في مصحف أُبي: {بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا} قاله مجاهد.
الثاني: بورك النور الذي في النار، قاله ابن عيسى.
الثالث: بورك الله الذي في النور، قاله عكرمة، وابن جبير.
الرابع: أنهم الملائكة، قاله السدي.
الخامس: الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق.
وفي قوله: {وَمَن حَوْلَهَا} وجهان:
أحدهما: الملائكة، قاله ابن عباس.
الثاني: موسى، قالها أبو صخر.
{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله: {سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} استعانة بالله وتنزيهًا له، قاله السدي.
الثاني: أن هذا من قول الله ومعناه: وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين، حكاه ابن شجرة. ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى.
وفي ذلك الكلام قولان:
أحدهما: أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي. قال وهب بن منبه: ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه.
والثاني: أن الله خلق في الشجرة كلامًا خرج منها حتى سمعه موسى، حكاه النقاش.
قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب: ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها.
{فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} فيه وجهان:
أحدهما: أن الجان الحية الصغيرة، سميت بذلك لاجتنانها واستتارها.
والثاني: أنه أراد بالجان الشيطان من الجن، لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان، كما قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها، كما قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] و[الشعراء: 33].
قال عبد الله بن عباس: وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مَدْيَن وكان اسمها: ما شاء، قال ابن جبير: وكانت من عوسج.
{وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ولم يرجع، قاله مجاهد، قال قطرب: مأخوذ من العقب.
الثاني: ولم ينتظر، قاله السدي.
الثالث: ولم يلتفت، قاله قتادة.
ويحتمل رابعًا: أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش، لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه.
قوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم، ولا فالمرسلون من الله أخوف.
{إلاَّ مَن ظَلَمَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم، ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع.
الوجه الثاني: أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين.
وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي، فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعًا.
الوجه الثاني: بعد النبوة فإنه معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم، غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها، وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} يعني توبة بعد سيئة.
{فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لذنبهم، رحيم بقبول توبتهم. اهـ.