فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ثم قص تعالى خبر موسى، والتقدير اذكر {إذْ قال موسى} وكان من أمر موسى عليه السلام أنه حين خرج بزوجه بنت شعيب عليه السلام يريد مصر وقد قرب وقت نبوته مشوا في ليلة ظلماء ذات برد ومطر ففقدوا النار ومسهم البرد واشتدت عليهم الظلمة وضلوا الطريق وأصلد زناد موسى عليه السلام، فبينما هو في هذه الحالة إذ رأى نارًا على بعد، و{أنست} معناه رأيت، ومنه قول حسان بن ثابت: المنسرح:
انظر خليلي بباب جِلَّقَ هل ** تؤنس دون البلقاء من أحد

فلما رأى موسى ذلك قال لأهله ما في الآية.
ومشى نحوها لما دنا منها رأى النار في شجرة سمر خضراء وهي لا تحرقها، وكلا قرب هو منها بعدت هي منه، وكان ذلك نورًا من نور الله عز وجل ولم يكن نارًا في نفسها لكن ظنه موسى نارًا فناداه الله عز وجل عند ذلك، وسمع موسى عليه السلام النداء من جهة الشجرة وأسمعه الله كلامه والخبر الذي رجاه موسى عليه السلام هو الإعلام بالطريق، وقوله: {بشهاب قبس} شبه النار التي تؤخذ في طرف عود أو غيره بالشهاب ثم خصصه بأنه مما اقتبس، إذ الشهب قد تكون من غير اقتباس، والقبس اسم لقطعة النار تقتبس في عود أو غيره كما القبض اسم ما يقبض ومنه قول أبي زيد: المنسرح:
في كفة صعدة مثقفة ** فيها سنان كشعلة القبسِ

ومنه قول الآخر:
من شاء من نار الجحيم اقتبسا

وأصل الشهاب الكوكب المنقض في أثر مسترق السمع وكل من يقال له شهاب من المنيرات فعلى التشبيه، قال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب وكلامه معترض، والقبس يحتمل أن يكون اسمًا غير صفة ويحتمل أن يكون صفة، فعلى كونه اسمًا غير صفة أضاف إليه بمعنى بشهاب اقتبسته أو اقتبسه، وعلى كونه صفة يكون ذلك كإضافة الدار إلى الآخرة والصلاة إلى الأولى وغير ذلك، وقرأ الجمهور بإضافة {شهاب} إلى {قبس} وهي قراءة الحسن وأهل المدينة ومكة والشام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {بشهابٍ قبس} بتنوين {شهاب} فهذا على الصفة.
ويجوز أن يكون القبس مصدر قبس يقبس كما الجلب مصدر جلب يجلب وقال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة كما تقول دار آجر وسوار ذهب حكاه أبو علي، و{تصطلون} معناه تستدفئون من البرد، والضمير في {جاءها} للنار التي رآها موسى، وقوله: {أن بورك} يحتمل أن تكون {أن} مفسرة، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على تقدير ب {أن بورك}، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير نودي أنه قاله الزجاج، وقوله: {بورك} معناه قدس وضوعف خيره ونمي، والبركة مختصة بالخير، ومن هذا قول أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب.
بورك الميت الغريب كما بو ** رك ينع الرمان والزيتون

وبارك متعد بغير حرف تقول العرب باركك الله وقوله: {من في النار} اضطرب المتأولون فيه فقال ابن عباس وابن جبير والحسن وغيرهم: أراد عز وجل نفسه وعبر بعضهم في هذا القول عبارات مردودة شنيعة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أراد النور، وقال الحسن وابن عباس: أراد بمن حولها الملائكة وموسى.
قال القاضي أبو محمد: فأما قول الحسن وغيره فإنما يتخرج على حذف مضاف بمعنى {بورك مَن} قدرته وسلطانه {في النار} والمعنى في النار على ظنك وما حسبت، وأما القول بأن {من} للنور فهذا على أن يعبر على النور بمن من حيث كان من نور الله ويحتمل أن تكون من الملائكة لأن ذلك النور الذي حسبه موسى نارًا لم يخل من الملائكة، {ومن حولها} يكون لموسى عليه السلام وللملائكة المطيفين به، وقرأ أبي بن كعب {أن بوركت النار}، كذا حكى أبو حاتم وحكى ابن جني أنه قرأ: {تباركت النار ومن حولها} وحكى الداني أبو عمرو أنه قرأ: {ومن حولها من الملائكة} قال: وكذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وقوله تعالى: {وسبحان الله رب العالمين} يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى، ويحتمل أن يكون خطابًا لمحمد عليه السلام اعتراضًا بين الكلامين، والمقصد به على كلا الوجهين تنزيه الله تعالى مِمَّا عسى أن يخطر ببال في معنى النداء من الشجرة وكون قدرته وسلطانه في النار وعود من عليه، أي هو منزه في جميع هذه الحالات عن التشبيه والتكييف، قال الثعلبي: وإنما الأمر كما روي أن في التوراة جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من فاران، المعنى ظهرت أوامره بأنبيائه في هذه الجهات وفاران جبل مكة، وباقي الآية إعلام بأنه الله تعالى والضمير في {أنه} للأمر والشأن.
قال الطبري: ويسميها أهل الكوفة المجهولة وأنسه بصفاته من العزة، أي لا خوف معي، والحكمة، أي لا نقص في أفعالي.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}.
أمره الله عز وجل بهذين الأمرين تدريبًا له في استعمالهما، وفي الكلام حذف تقديره فألقى العصا {فلما رآها تهتز}، وأمال {رآها} بعضُ القراء، و{الجانّ} الحيات لأنها تجن أنفسها أي تسترها، وقالت فرقة: الجان صغار الحيات وعصا موسى صارت حية ثعبانًا وهو العظيم فإنها شبهت ب {الجانّ} في سرعة الاضطراب، لأن الصغار أكثر حركة من الكبار، وعلى كل قول فإن الله خلق في العصا حياة وغير أوصافها وأعراضها فصارت حية، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد {جأن} بالهمز فلما أبصر موسى عليه السلام هل ذلك المنظر {ولى} فارًا، قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة: ولم يلتفت.
قال القاضي أبو أحمد: وعقب الرجل إذا ولى عن أمر صرف بدنه أو وجهه إليه كأنه انصرف على عقبيه وناداه الله مؤنسًا ومقويًا على الأمر: {يا موسى لا تخف} فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوّة لا يخافون عندي، ومعي، فأخذ موسى الحية فرجعت عصا ثم صارت له عادة، واختلف الناس في الاستثناء في قوله تعالى: {إلا من ظلم}، فقال مقاتل وغيره: الاستثناء متصل وهو من الأنبياء، وروى الحسن أن الله تعالى قال لموسى: أخفتك بقتلك النفس، وقال الحسن أيضًا: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب ثم تذنب والله فتاقب فكيف بنا، وقال ابن جريج: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه، قال كثير من العلماء: لم يعر أحد من البشر من ذنب إلا ما روي عن يحيى بن زكرياء.
قال القاضي أبو محمد: وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل واختلف فيما عدا هذا، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك، وفي الآية على هذا التأويل حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه تقديره فمن ظلم {ثم بدل}، وقال الفراء وجماعة: الاستثناء منقطع وهو إخبار عن غير الأنبياء كأنه قال: لكن من ظلم من الناس ثم تاب {فإني غفور رحيم}، وقالت فرقة: {إلا} بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا وجه له، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم {ألا من ظلم} على الاستفتاح، وقوله: {ثم بدل حسنًا} معناه عملًا صالحًا مقترنًا بتوبة، وهذه الآية تقتضي حتم المغفرة للتائب، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك، وأهل السنة في التائب من الماصي على أنه في المشيئة كالْمُصِرِّ، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على المصر، وقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] عمت الجميع من التائب والمصر، وقالت المعتزلة.
{لمن يشاء} [النساء: 48] معناه للتائبين.
قال القاضي أبو محمد: وذلك مردود من لفظ الآية لأن تفصيلها بين الشرك وغيره كان يذهب فائدته إذ الشرك يغفر للتائب وما دونه كذلك على تأويلهم فما فائدة التفصيل في الآية وهذا احتجاج لازم فتأمله، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: {حَسنًا بعد سَوء} بفتح الحاء والسين وهي قراءة مجاهد وابن أبي ليلى، وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني {حسنى} مثل فعلى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{إِذ قال موسى} المعنى: اذكر إِذ قال موسى.
قوله تعالى: {بشهاب قَبَس} قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب إِلاّ زيدًا: {بشهابٍ} بالتنوين.
وقرأ الباقون على الإِضافة غير منوَّن.
قال الزجاج: من نوَّن الشهاب، وجعل القبس من صفة الشهاب، وكل أبيض ذي نور، فهو شهاب.
فأما من أضاف، فقال الفراء: هذا مما يضاف إِلى نفسه إِذا اختلفت الأسماء، كقوله: {وَلدارُ الآخرة} [يوسف: 109].
قال ابن قتيبة: الشِّهاب: النار، والقَبَس: النار تُقْبَس، يقال: قَبَسْتُ النار قَبْسًا، واسم ما قَبَستَ: قَبَسٌ.
قوله تعالى: {تَصْطَلُونَ} أي: تستدفئون، وكان الزمان شتاءً.
قوله تعالى: {فلمّا جاءها} أي: جاء موسى النارَ، وإِنما كان نورًا فاعتقده نارًا، {نُوديَ أن بُورِكَ مَنْ في النّار} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: قُدِّس مَنْ في النّار، وهو الله عز وجل، قاله ابن عباس، والحسن، والمعنى: قُدِّس مَنْ ناداه مِنَ النّار، لا أنّ الله عز وجل يَحُلُّ في شيء.
والثاني: أن {مَنْ} زائدة؛ والمعنى: بوركتِ النَّارُ، قاله مجاهد.
والثالث: أن المعنى: بُورِك على من في النار، أو فيمن في النار؛ قال الفراء: والعرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير: بُورِك من في طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف.
وهذه تحيَّة من الله تعالى لموسى بالبركة، كما حيَّا إِبراهيمَ بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: {رحمةُ الله وبركاتُه عليكم أهلَ البيت} [هود: 73].
فخرج في قوله: {بُورِك} قولان:
أحدهما: قدِّس.
والثاني: من البَرَكة.
وفي قوله: {ومَنْ حَوْلَها} ثلاثة أقوال:
أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: موسى والملائكة، قاله محمد بن كعب.
والثالث: موسى؛ فالمعنى: بُورِك فيمن يطلبها وهو قريب منها.
قوله تعالى: {إِنَّه أنا اللّهُ} الهاء عماد في قول أهل اللغة؛ وعلى قول السدي: هي كناية عن المنادي، لأن موسى قال: مَن هذا الذي يناديني؟ فقيل: {إِنَّه أنا الله}.
قوله تعالى: {وأَلْقِ عصاكَ} في الآية محذوف، تقديره: فألقاها فصارت حيَّة، {فلمَّا رآها تهتزُّ كأنَّها جانٌّ} قال الفراء: الجانّ: الحيَّة التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة.
قوله تعالى: {ولَمْ يُعَقِّبْ} فيه قولان:
أحدهما: لم يلتفت، قاله قتادة.
والثاني: لم يرجع، قاله ابن قتيبة، والزجاج.
قال ابن قتيبة: وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العَقْبِ.
قوله تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ} أي: لا يخافون عندي.
وقيل: المراد: في الموضع الذي يوحى إِليهم فيه، فكأنه نبَّهه على أن من آمنه الله بالنبوَّة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة.
وفي قوله: {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استثناء صحيح، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل؛ والمعنى: إِلا من ظَلَمَ منهم فانه يخاف.
قال ابن قتيبة: علم الله تعالى أن موسى مُسْتَشْعِرٌ خِيفةً من ذَنْبه في الرَّجل الذي وَكزَه، فقال: {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} أي: توبة وندمًا، فانه يخاف، وإِني غفور رحيم.
والثاني: أنه استثناء منقطع؛ والمعنى: لكن من ظلَمَ فانه يخاف، قاله ابن السائب، والزجاج.
وقال الفراء: {مَنْ} مستثناة من الذين تُركوا في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسَلون، إِنما الخوف على غيرهم، إِلا من ظَلَمَ، فتكون {مَنْ} مستثناة.
قال ابن جرير: في الآية محذوف، تقديره: إِلا من ظَلَمَ، فمن ظَلَمَ ثم بدَّل حُسْنًا.
والثالث: أن {إِلاّ} بمعنى الواو، فهو كقوله: {لِئَلاَّ يكونَ للناس عليكم حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَموا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، حكاه الفراء عن بعض النحويين، ولم يرضه.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: {أَلا مَنْ ظَلَمَ} بفتح الهمزة وتخفيف اللام.
وللمفسرين في المراد بالظلم هاهنا قولان:
أحدهما: المعاصي.
والثاني: الشِّرك.
ومعنى {حُسْنًا} توبة وندمًا.
وقرأ ابن مسعود، والضَّحَّاك، وأبو رجاء، والأعمش، وابن السميفع، وعبد الوارث عن أبي عمرو: {حَسَنًا} بفتح الحاء والسين.
{بَعْدَ سُوءٍ} أي: بعد إِساءة.
وقيل: الإِشارة بهذا إِلى أن موسى وإِن كان [قد] ظلم نفسه بقتل القبطي، فإن الله يغفِر له، لأنه ندم على ذلك وتاب. اهـ.