فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ}.
{إِذْ} منصوب بمضمر وهو اذكر؛ كأنه قال على أثر قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله.
{إني آنَسْتُ نَارًا} أي أبصرتها من بُعد.
قال الحارث بن حلِّزَة:
آنَستْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَها الْقُنَّ ** اصُ عصرًا وقَدْ دَنَا الإمساءُ

{سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {شِهابٍ}.
والباقون بغير تنوين على الإضافة؛ أي بشعلة نار؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وزعم الفرّاء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه.
قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها.
و{شِهابِ قبسٍ} إضافة النوع والجنس، كما تقول: هذا ثوبُ خزٍّ، وخاتمُ حديدٍ وشبهه.
والشهاب كل ذي نُور؛ نحو الكوكب والعُود الموقَد.
والقبَس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه؛ فالمعنى بشهاب من قبس.
يقال: أقبست قبسًا؛ والاسم قبس.
كما تقول: قبضت قبضًا.
والاسم القبض.
ومن قرأ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلًا منه.
المهدوي: أو صفة له؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسمًا غير صفة، ويجوز أن يكون صفة؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسًا والقبس المقبوس؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتًا.
والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن.
وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه.
ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن.
ويجوز في غير القرآن بشهابٍ قبسًا على أنه مصدر أو بيان أو حال.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنًا، ومعناه يستدفئون من البرد.
يقال: اصطلى يصطلي إذا استدفأ.
قال الشاعر:
النارُ فاكهةُ الشتاءِ فمن يردْ ** أكلَ الفواكهِ شاتيًا فليصطلِ

الزجاج: كل أبيض ذي نُور فهو شهاب.
أبو عبيدة: الشهاب النار.
قال أبو النَّجم:
كأنما كان شهابًا واقدَا ** أضاء ضوءًا ثم صار خامدَا

أحمد بن يحيى: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه؛ وقول النحاس فيه حسن: والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء.
وقال الشاعر:
في كفَّه صَعْدَةٌ مثقَّفةٌ ** فيها سِنانٌ كشُعلة القَبَسِ

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور؛ قاله وهب بن منبّه.
فلما رأى موسى النار وقف قريبًا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها الُعلَّيق، لا تزداد النار إلا عظمًا وتضرّمًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنًا؛ فعجب منها وأهوى إليها بضِغْث في يده ليقتبس منها؛ فمالت إليه؛ فخافها فتأخر عنها؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها، إلى أن {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا}.
وقد مضى هذا المعنى في طه.
{نُودِيَ} أي ناداه الله؛ كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52].
{أَن بُورِكَ} قال الزجاج: {أَنْ} في موضع نصب؛ أي بأنه.
قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله.
وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبيّ وابن عباس ومجاهد {أن بوركت النار ومن حولها}.
قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى.
وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك.
الثعلبي: العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات.
قال الشاعر:
فبوركتَ مولودًا وبوركتَ ناشِئًا ** وبوركتَ عند الشَّيبِ إذ أنتَ أشيبُ

الطبري: قال: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله.
ويقال باركه الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنًى؛ أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار؛ لا أنه كان في وسطها.
وقال السّدي: كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها.
وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه؛ قال: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} [هود: 73].
وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير: قُدِّس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدّس وتعالى.
قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عز وجل؛ نادى الله موسى وهو في النور؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورًا عظيمًا فظنه نارًا؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلَم به وجود الفاعل.
وقيل على هذا: أي بورك من في النار سلطانه وقدرته.
وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت: ومما يدلّ على صحة قول ابن عباس ما خرّجه مسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القِسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سُبُحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضًا.
ولفظ مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات؛ فقال: «إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يُرفَع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور وفي رواية أبي بكر النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرهُ من خلقه» قال أبو عبيد: يقال السُّبَحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه.
وقوله: «لو كشفها» يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبِّتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها.
قال ابن جُريج: النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب؛ حجاب العزّة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء.
وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء؛ فكانت النار نورًا وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه نارًا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر.
وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها.
وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة: جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران.
فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفاران مكة.
وسيأتي في القصص بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} تنزيهًا وتقديسًا لله رب العالمين.
وقد تقدّم في غير موضع، والمعنى: أي ويقول من حولها {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف.
وقيل: إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء؛ استعانة بالله تعالى وتنزيهًا له؛ قاله السدي.
وقيل: هو من قول الله تعالى.
ومعناه: وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى: {يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين.
والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن.
{أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله.
وقيل: قال موسى يا رب من الذي نادى؟ فقال له: {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ}.
قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبّه: ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها.
وقيل: إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلّم له هو الله، وأن موسى رسوله؛ وكل نبيّ لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوّته.
وفي الآية حذف: أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حيّة تهتز كأنها جانّ، وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم.
وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة.
وقيل: إنها قلبت له أوّلًا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة.
وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهي الأنثى، ومرة ثعبانًا وهو الذكر الكبير من الحيات.
وقيل: المعنى انقلبت ثعبانًا تهتز كأنها جانّ لها عظم الثعبان وخفة الجانّ واهتزازه وهي حية تسعى.
وجمع الجان جِنّان ومنه الحديث: «نهى عن قتل الجِنّان التي في البيوت» {ولى مُدْبِرًا} خائفًا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع؛ قاله مجاهد.
وقال قتادة: لم يلتفت.
{يا موسى لاَ تَخَفْ} أي من الحية وضررها.
{إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعًا فقال: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ}.
وقيل: إنه استثناء من محذوف؛ والمعنى: إني لا يخاف لديّ المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سواء} فإنه لا يخاف؛ قاله الفرّاء.
قال النحاس: استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدًا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدًا؛ وهذا ضدّ البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه.