فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: {وأن ألق عصاك} بعد قوله: {أن يا موسى إني أنا الله} على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليه أن حج واعتمر، وإن شئت أن حج وأن اعتمر. انتهى.
وقوله: {إنه}، معطوف على بورك مناف لتقديره.
وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على بورك، وليس جزؤها الذي هو.
وقيل: معطوفًا على بورك، وإنما احتيج إلى تقدير.
وقيل له: ألق عصاك، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين، والصحيح أنه لا يشترط ذلك، بل قوله: {وألق عصاك} معطوف على قوله: {إنه أنا العزيز الحكيم}، عطف جملة الأمر على جملة الخبر.
وقد أجاز سيبويه: جاء زيد ومن عمرو.
{فلما رآها تهتز} ثم محذوف تقديره: فألقاها من يده.
وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد: جأن، بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله: {ولا الضألين} بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد.
وجاء: {فإذا هي حية} {فإذا هي ثعبان مبين} وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها، وليس إعدامًا لذاتها وخلقها لحية وثعبان، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات.
وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان، فقيل: وهو صغار الحيات، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها، مع عظم جثتها.
ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل، {ولى مدبرًا ولم يعقب}.
قال مجاهد: ولم يرجع.
وقال السدّي: لم يمكث.
وقال قتادة: ولم يلتفت، يقال: عقب الرجل: توجه إلى شيء كان ولى عنه، كأنه انصرف على عقبيه، ومنه: عقب المقاتل، إذا كر بعد الفرار.
قال الشاعر:
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ** ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا

ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمرًا هائلًا جدًا، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها.
قال الزمخشري: وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمرٍ أريد به، ويدل عليه: {إني لا يخاف لديّ المرسلون}. انتهى.
قال ابن عطية: وناداه الله تعالى مؤنسًا ومقويًا على الأمر: {يا موسى لا تخف}، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري.
فأخذ موسى عليه السلام الحية، فرجعت عصا، ثم صارت له عادة. انتهى.
وقيل: المعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه، وهم أخوف الناس من الله.
وقيل: إذا أمرتهم بإظهار معجز، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، فالمرسل يخاف الله لا محالة. انتهى.
والأظهر أن قوله: {إلا من ظلم}، استثناء منقطع، والمعنى: لكن من ظلم غيرهم، قاله الفراء وجماعة، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم.
وعن الفراء: إنه استثناء متصل من جمل محذوفة، والتقدير: وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم.
ورده النحاس وقال: الاستثناء من محذوف محال، لو جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيدًا، بمعنى: وإنما أضرب غيرهم إلا زيدًا، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه. انتهى.
وقالت فرقة: إلا بمعنى الواو، والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليس بشيء، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال، وإلا للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر.
وروي عن الحسن، ومقاتل، وابن جريج، والضحاك، ما يقتضي أنه استثناء متصل.
قال ابن عطية: وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عداها، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك. انتهى.
وقال الزمخشري: وإلا بمعنى لكن، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك، والمعنى: ولكن من ظلم منهم، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى، بوكزة القبطي.
ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلمًا؛ كما قال موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}. انتهى.
وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: ألا من ظلم، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف استفتاح.
ومن: شرطية.
والحسن: حسن التوبة، والسوء: الظلم الذي ارتكبه.
وقرأ الجمهور: حسنًا، بضم الحاء وإسكان السين منونًا.
وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني: كذلك، إلا أنه لم ينون، جعله فعلى، فامتنع الصرف؛ وابن مقسم: بضم الحاء والسين منونًا.
ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو زيد، وعصمة، وعبد الوارث، وهارون، وعياش: بفتحهما منونًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ}.
منصوبٌ على المفعولية بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يُلقاه عليه الصَّلاةُ والسلام من لَدْنه عزَّ وجلَّ تقريرًا لما قبله وتحقيقًا له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصَّلاة والسَّلامُ لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور نارًا {إِنّى آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلُّوه، والسِّينُ للدِّلالةِ على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إن صحَّ أنَّه لم يكُن معه عليه الصلاة والسلام إلا امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوينهما على أن الثَّاني بدل من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخودة من أصلها. وقُرىء بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى، والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ.
{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ} من جانب الطُّورِ {أَن بُورِكَ} معناه أي بُورك على أن أنْ مفسِّرةٌ لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأنْ بورك على أنَّها مصدرية حُذف عنها الجارُّ جريًا على القاعدة المستمرَّةِ، وقيل: مخفَّفةٌ من الثَّقيلة، ولا ضير في فقدان التَّعويضِ بلا أو قد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ {مَن في النار وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه: {نُودي من شاطيءِ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة} ومن حولَ مكانها وقُرىء {تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها} والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتًا ولاسيما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى.
وقيل: المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ، وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إيَّاه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وسبحان الله رَبّ العالمين} تعجيبٌ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من ذلك وإيذانٌ بأنَّ ذلك مريدُه ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهًا على أنَّ الكائنَ من جلائلِ الأمورِ وعظائمِ الشئون ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين.
{يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله} استئنافٌ مسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورةِ. والضَّمير إمَّا للشَّامِ وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيان له وقوله تعالى: {العزيز الحكيم} صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أي أنا القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ، والفاعلُ كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين.
{وَأَلْقِ} عطف على بُورك منتظم معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ {عَصَاكَ} حسبما نطقَ به قولُه تعالى: {وأنْ ألقِ عصاك} بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ} فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى: {اخرج عَلَيْهِنَّ} كأنَّه قيل: فألقاهَا فانقلبت حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب. وقوله تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعولِ رأى مثل يهتزُّ كما أُشير إليه أو من ضميرِ تهتز على طريقة التَّداخلِ وقرىء {جأن} على لغةِ من جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ {ولى مُدْبِرًا} من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي لم يرجعْ على عقبةِ، مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك الأمرَ أُريد به كما يُنبىء عنه قوله تعالى: {خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} أي من غيري ثقةً بي أو مطلقًا لقوله تعالى: {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقًا لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقُون في مطالعةِ شئون الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلًا وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه.
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم من فرطتْ منه صعيرةٌ مما يجوز صدورُه عن الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ، وتسميتُها ظُلمًا لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: {ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له}. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِذْ قَالَ موسى لأهْلِهِ}.
منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلى الله عليه وسلم من لدنه عز وجل تقريرًا لما قبله وتحقيقًا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليه السلام لأهله، وجوز أن تكون {إِذْ} ظرفًا لعليم.
وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدًا بالمعمول، وقال في الكشف: ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهومًا معتبرًا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدًا لها كأنه قيل: ما أعلمه حيث فعل بموسى عليه السلام ما فعل، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير. اهـ.
ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليه السلام {إِنّى ءانَسْتُ نَارًا إِذْ قَالَ موسى} كان في أثناء سيره خارجًا من مدين عند وادي طوى وكان عليه السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك؛ ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليه السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعًا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش.