فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} أي: حين قفل من مدين إلى مصر، وأضَلَّ الطريق: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي: رأيتها: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي: عن الطريق: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي: بشعلة مقتبسة: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: تتدفئون به: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: بورك من في مكان النار ومَن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أُبيّ: تباركت الأرض ومن حولها، وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر دينيّ فيها، وهو تكليم الله موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث أثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فتلك البقعة المباركة؟ كذا في الكشاف.
وقال السمين: بارك يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد بمن إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي: من قدرته وسلطانه في النار. وقيل المراد به موسى والملائكة. وكذلك قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} وقيل المراد بمن غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.
ولذا قال الزمخشري: والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (71)، وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتًا.
ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.
وقال القرطبيّ: هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73].
وعن ابن عباس: لم تكن تلك النار نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهج. وعنه: هي نور رب العالمين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}.
قال ابن كثير: وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عَمْرو بن مرّة: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العليّ العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير.
وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعًا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سرّ بديع. وهو الإشارة الجُمْلية إلى روح إرساله عليه السلام. أي: أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد، الحكيم في البعثة والإرسال، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلًا واضحًا على أنه القادر على كل شيء، بقوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابًا: {وَلَّى} أي: من الخوف: {مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي: لم يرجع على عقبه من شدة خوفه: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي: لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام، من وكزه القبطيّ والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشري حيث قال: يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلمًا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}.
قال الزجاج والزمخشري وغيرهما: انتصب {إذْ} بفعل مضمر تقديره: اذكر، أي أن {إذْ} مجردٌ عن الظرفية مستعمل بمعنى مطلق الوقت، ونصْبُه على المفعول به، أي اذكر قصة زمن قال موسى لأهله، يعني أنه جار على طريقة {وإذْ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30].
فالجملة استئناف ابتدائي.
ومناسبة موقعها إفادة تنظير تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بتلقّي موسى عليه السلام كلامَ الله إذ نودي {يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم} [النمل: 9].
وذلك من بديع التخلص إلى ذكر قصص هؤلاء الأنبياء عقب التنويه بالقرآن، وأنه من لدن حكيم عليم.
والمعنى: أن الله يقصّ عليك من أنباء الرسل ما فيه مَثَل لك ولقومك وما يثبت به فؤادك.
وفي ذلك انتقال لنوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن المغيبات وهو ما عددناه في الجهة الرابعة من جهات إعجاز القرآن في المقدمة العاشرة من المقدمات.
وجملة: {قال موسى لأهله}. إلى آخرها تمهيد لجملة {فلما جاءها نُودي أن بُورك مَن في النّار} [النمل: 8]. إلخ.
وزمانُ قول موسى لأهله هذه المقالة هو وقت اجتلابه للمبادرة بالوحي إليه.
فهذه القصة مثَل ضربه الله لِحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه، ابتدئت بما تقدم رسالة موسى من الأحوال إدماجًا للقصة في الموعظة.
والأهل: مراد به زوجه، ولم يكن معه إلا زوجه وابنان صغيران.
والمخاطب بالقول زوجه، ويكنى عن الزوجة بالأهل.
وفي الحديث: «والله ما علمتُ على أهلي إلا خَيرًا».
ولم تظهر النار إلا لموسى دون غيره من أهله لأنها لم تكن نارًا معتادة، لكنها من أنوار عالم الملكوت جلاّه الله لموسى فلا يراه غيره.
ويؤيد هذا تأكيده الخبر بإن المشير إلى أن زوجهُ ترددت في ظهور نار لأنها لم ترها.
والإيناس: الإحساس والشعور بأمر خفي، فيكون في المرئيات وفي الأصوات كما قال الحارث بن حلزة:
آنَستْ نَبْأَةً وأفزعها القُنَّ ** اصُ عَصْرًَا وقد دنا الإِمساء

والمراد بالخبر خبر المكان الذي تلوح منه النار.
ولعله ظن أن هنالك بيتًا يرجو استضافتهم إياه وأهله تلك الليلة، وإن لم يكن أهل النار أهل بيت يستضيفون بأن كانوا رجالًا مقوين يأتتِ منهم بجمرة نار ليوقد أهله نارًا من حطب الطريق للتدفُّؤ بها.
والشهاب: الجمر المشتعل.
والقبس: جمرة أو شعلة نار تُقبس، أي يُؤخذ اشتعالها من نار أخرى ليُشعل بها حطب أو ذُبالة نار أو غيرهما.
وقرأ الجمهور بإضافة {شهاب} إلى {قبس} إضافة العام إلى الخاص مثل: خَاتم حديد.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بتنوين {شهاب}، فيكون {قبس} بدلًا من {شهاب} أو نعتًا له.
وتقدم في أول سورة طه.
والاصطلاء: افتعال من الصلي وهو الشيُّ بالنار.
ودلت صيغة الافتعال أنه محاولة الصلي فصار بمعنى التدفُّؤ بوهج النار.
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)}.
أُنث ضمير {جاءها} جريًا على ما تقدم من تسمية النور نارًا بحسب ما لاح لموسى.
وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب، فقوله: {أن بورك من في النار ومن حولها} هو بعض ما اقتضاه قوله في طه (12): {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى} لأن معنى بورك قُدّس وزُكِّيَ.
وفعل بارك يستعمل متعديًا، يقال: باركك الله، أي جعل لك بركة وتقدم بيان معنى البركة في قوله تعالى: {للَّذِي بِبَكَّة مباركًا} في آل عمران (96)، وقوله: {وبركاتتٍ عليك وعلى أمم ممّن معك} في سورة هود (48).
و{أن} تفسيرية لفعل {نُودِيَ} لأن فيه معنى القول دون حروفه، أي نودي بهذا الكلام.
و{مَن في النار} مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطًا به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف، فعبر عنه ب {مَن في النار} وهو نفسه.
والعدول عن ذِكره بضمير الخِطاب كما هو مقتضى الظاهر، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر، لأن في معنى صلة الموصول إيناسًا له وتلطفًا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ «قُم أبَا تراب» وكثيرٌ التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطَّف به من أحواله.
وهذا الكلام خبر هو بشارة لموسى عليه السلام ببركة النبوءة.
ومَن حَوْل النار: هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسُه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن الله تعالى.
فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر {مَن} الموصولة في الموضعين، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة.