فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
هذا ابتداء قصص في غيوب وعبر وليس بمثال لقريش، و{داود} من بني إسرائيل وكان ملكًا {وورث سليمان} ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثًا تجوزًا، وهذا نحن قولهم العلماء ورثة الأنبياء، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف. وقوله: {علمنا منطق الطير} إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره: إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة، قال الشعبي: وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين، وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جندًا من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد أمْر الطير، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جدًا يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي سائره عُدَّه، وقوله: {وأوتينا من كل شيء} معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم، ثم ردد شكر فضل الله تعالى، ثم قص تعالى حال سليمان فقال: {وحشر لسليمان} أيْ جمع واختلف الناس في مقدار جند سلمان عليه السلام اختلافًا شديدًا لم أر ذكره لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيمًا ملأ الأرض وانقادت له المعمورة وكان كرسيه يحمل أجناده من الإنس والجن، وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها في الأمور، وكان له في الكرسي الأعظم موضع يخصه، و{يوزعون} معناه يرد أولهم. إلى آخرهم ويُكَفُّون، وقال قتادة فكان لكل صنف وزعة في رتبهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها فرب وقت كان يسير فيه في الأرض، ومنه قول الحسن الصبري حين ولي قضاء البصرة: لابد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة حين وصفت له الجارية في يوم الفتح أنها ترى سوادًا أمامه فارس قد نهد من الصف فقال لها: ذلك الوازع، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل].
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

أي كافٍ.
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}.
ظاهر هذه الآية أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، وبذلك يتفق حطم النمل، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح وأحست النمل بنزولهم في {واد النمل}، وأمال أبو عمرو الواو من {واد}، والجميع فخم، وبالإمالة قرأ ابن إسحاق، وقرأ المعتمر بن سليمان عن أبيه {النمُل} بضم الميم كالسمر، و{قالت نَمُلة} بالضم كسمرة، وروي عنه ضم النون والميم من {النُّمُل} وقال نوف البكالي: كانت تلك النملة على قدر الذئاب وقالت فرقة: بل كانت صغارًا.
قال القاضي أبو محمد: والذي يقال في هذا أن النمل كانت نسبتها من ذلك الخلق نسبة هذا النمل منا فيحتمل أن كان الخلق كله أكمل، وهذه النملة قالت هذا المعنى الذي لا يصلح له إلا هذه العبارة قولًا فهمه عنها النمل، فسمعها سليمان على بعده، وجاءت المخاطبة كمن يعقل، لأنها أمرتهم بما يؤمر به من يعقل، وروي أنه كان على ثلاثة أميال {فتبسم} من قولها، والتبسم ضحك الأنبياء في غالب أمرهم لا يليق بهم سواه، وكان تبسمه سرورًا، واختلف بما كان، فقالت فرقة بنعمة الله في إسماعه وإفهامه ونحو ذلك، وقالت فرقة بثناء النملة عليه وعلى جنوده في أن نفت عنهم تعمد القبيح من الفعل فجعلت الحطم {وهم لا يشعرون}، وقرأ شهر بن حوشب {مسْكنكم} بسكون السين على الإفراد، وفي مصحف أبي {مساكنكن} و{ضاحكًا} نصب على الحال، وقرأ محمد بن السميفع {ضحكًا} وهو نصب على المصدر إما ب {تبسم} على مذهب المبرد إذ هو في معنى ضحك، وإما بتقدير ضحك على مذهب سيبويه، وقرأ جمهور القراء {لا يحْطمنّكم} بشد النون وسكون الحاء، وقرأ أبو عمرو وفي رواية عبيد {لا يحطمنْكم} بسكون النون وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وقرأ الحسن وأبو رجاء {لا يُحَطِّمنّكم} بضم الياء وفتح الحاء وكسر الطاء وشدها وشد النون وعنه أيضًا {يَحِطِّمنكم} بفتح الياء وكسر الحاء والطاء وشدها، وقرأ الأعمش وطلحة {لا يحطمكم} مخففة بغير نون، وفي مصحف أبي بن كعب {لا يحطمنكن} مخففة النون التي قبل الكاف، ثم دعا سليمان إلى ربه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه إلى شكر نعمته وهذا هو معنى إيزاع الشكر، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان عِلْمًا}.
قال المفسرون: عِلْمًا بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال {وقالا الحمدُ لله الذي فضَّلَنا} بالنبوَّة والكتاب وإِلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإِنس {على كثير من عباده المؤمِنِين} قال مقاتل: كان داود أشد تعبُّدًا من سليمان، وكان سليمان أعظمَ مُلْكًا منه وأفطن.
قوله تعالى: {وَورِث سليمانُ داودَ} أي: ورث نبوَّته وعِلْمه ومُلْكه، وكان لداود تسعة عشر ذكرًا، فخصّ سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء.
قوله تعالى: {وقال} يعني سليمان لبني إِسرائيل {يا أيُّها الناسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر} قرأ أُبيُّ بن كعب {عَلَمْنا} بفتح العين واللام.
قال الفراء: {مَنْطِقَ الطَّير} كلام الطَّير، كالمنطق إِذا فُهم، قال الشاعر:
عَجِبْتُ لها أَنَّى يَكُونُ غِناؤها ** فَصيحًا ولم تَفْغَرْ بمَنْطِقها فَمَا

ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطَّير.
قال قتادة: والنمل من الطَّير.
{وأُوتِينا من كُلِّ شيء} قال الزجاج: أي: من كل شيء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس.
وقال مقاتل: أُعطينا المُلك والنبوَّة والكتاب والرِّياح ومَنْطِق الطَّير، وسخِّرت لنا الجنُّ والشياطين.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: أُعطي سليمان مُلْك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، وملك اهلَ الدنيا كلَّهم من الجن والإِنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأُعطي عِلْم كل شيء ومنطق كل شيء، وفي زمانه صُنعت الصنائع المعجِّبة، فذلك قوله: {عُلِّمنا مَنْطِقَ الطَّير وأوتينا من كلِّ شيء}.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا} يعني: الذي أُعطينا {لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ} أي: الزيادة الظاهرة على ما أُعطي غيرنا.
{وحُشِر لسليمان جنودُه} أي: جُمع له كل صِنف من جُنده على حِدَة، وهذا كان في مسيرٍ له، {فهم يُوزَعُون} قال مجاهد: يُحبَس أوَّلُهم على آخرهم.
قال ابن قتيبة: وأصل الوَزْع: الكَفُّ والمنع.
يقال: وزَعْت الرَّجل، أي: كففته، ووازِعُ الجيش: الذي يكفُّهم عن التفرُّق، ويردُّ مَنْ شَذَّ منهم.
قوله تعالى: {حتَّى إِذا أَتَوا} أي: أشرفوا {على وادي النَّمْل} وفي موضعه قولان:
أحدهما: أنه بالطَّائف، قاله كعب.
والثاني: بالشَّام قاله قتادة.
قوله تعالى: {قالتْ نَمْلَةٌ} وقرأ ابو مجلز، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف {نَمُلَةٌ} بضم الميم؛ أي: صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهومًا عبّر عنه بالقول؛ ولمَّا نَطَقَ النَّمل كما ينطق بنو آدم، أُجري مجرى الآدميين، فقيل: {ادخُلوا}، وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان مُعْجِزًا له، وقد ألهم الله النمل كثيرًا من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك أنها تكسر كل حبَّة تدخرها قطعتين لئلاّ تَنْبُت، إِلا الكُزْبرة فانها تكسرها أربع قطع، لأنها تَنْبُت إِذا كُسرت قطعتين، فسبحان من ألهمها هذا!
وفي صفة تلك النملة قولان:
أحدهما: أنها كانت كهيئة النعجة، قال نوف الشامي: كان النمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب.
والثاني: كانت نملة صغيرة.
{ادخلوا مساكنَكم} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: {مَسْكَنَكم} على التوحيد.
قوله تعالى: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} الحَطْم: الكَسْر.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء {لَيَحْطِمَنَّكُمْ} بغير ألف بعد اللام.
وقرأ ابن مسعود: {لا يَحْطِمْكُمْ} بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون.
وقرأ عمرو بن العاص، وأبان {يَحْطِمَنْكُمْ} بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضًا والطاء خفيفة.
وقرا أبو المتوكل، وأبو مجلز: {لا يَحِطِّمَنَّكُمْ} بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعًا.
وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: {يُحْطِمَنَّكُمْ} برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون.
والحَطْمُ: الكَسْر، والحُطَام: ما تحطَّم.
قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال.
وفي قوله: {وهم لا يَشْعُرون} قولان:
أحدهما: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة، قاله ابن عباس.
والثاني: وأصحاب سليمان لا يَشْعُرون بمكانكم، لانها علمتْ أنَّه ملك لا بغي فيه، وأنهم لو علموا بالنمل ما توطَّؤوهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {فتبسَّمَ ضاحكًا} قال الزجاج: {ضاحكًا} منصوب، حال مؤكَدة، لأن {تبسّم} بمعنى ضحك.
قال المفسرون: تبسم تعجُّبًا ممَّا قالت: وقيل: من ثنائها عليه.
وقال بعض العلماء: هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة يا نادت أيها نبهت {النمل} عيَّنت {ادخلوا} أمرت {مساكنَكم} نصَّت {لا يحطمنَّكم} حذَّرت {سليمانُ} خصَّت {وجنوده} عمَّت {وهم لا يشعُرون} عذرت.
قوله تعالى: {وقال ربِّ أَوْزِعْني} قال ابن قتيبة: ألهِمْني، أصل الإِيزاع: الإِغراء بالشيء، يقال: أوزَعْتُه بكذا، أي: أغريتُه به، وهو مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ بكذا.
وقال الزجاج.
تأويله في اللغة: كُفَّني عن الأشياء إِلا عن شُكرِ نِعمتك؛ والمعنى: كُفَّني عمَّا يُباعِد منك، {وأن أَعْمَلَ} أي: وألهِمْني أن أعمل {صالحًا ترضاه} قال المفسرون: إِنما شكر اللّهَ عز وجل لأن الريح أبلغت إِليه صوتها ففهم ذلك. اهـ.