فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي من حديث أبي هريرة: وتبسم سليمان عليه السلام، إما للعجب بما دل عليه قولها: {وهم لا يشعرون}، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره، وإما للسرور بما آتاه الله مما لم يؤت أحدًا، وهو إدراكه قول ما همس به، الذي هو مثل في الصغر، ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه.
وانتصب ضاحكًا على الحال، أي شارعًا في الضحك ومتجاوزًا حد التبسم إلى الضحك، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب، كما يقولون، تبسم تبسم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزىء، وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح، أتى بقوله: {ضاحكًا}.
وقرأ ابن السميفع: ضحكًا، جعله مصدرًا، لأن تبسم في معنى ضحك، فانتصابه على المصدريه، أو على أنه مصدر في موضع الحال، كقراءة ضاحكًا.
{وقال رب أوزعني} أي اجعلني أزع شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه، حتى لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرًا لك.
قال ابن عباس: أوزعني: اجعلني أشكر.
قال ابن زيد: حرضني.
وقال أبو عبيدة: أولعني.
وقال الزجاج: امنعني عن الكفران.
وقيل: ألهمني الشكر، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما، كما يشكر نعمة الله على نفسه، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما، ولاسيما إذا كان الولد تقيًا لله صالحًا، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما بسببه، كقولهم: رحم الله من خلفك، رضي الله عنك وعن والديك.
ولما سأل ربه شيئًا خاصًا، وهو شكر النعمة، سأل شيئًا عامًا، وهو أن يعمل عملًا يرضاه الله تعالى، فاندرج فيه شكر النعمة، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين، ثم دعا أن يلحق بالصالحين.
قال ابن زيد: هم الأنبياء والمؤمنون، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من الصالحين، كما قال يوسف عليه السلام: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} وقال تعالى، عن إبراهيم عليه السلام: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} قيل: لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْمًا}.
كلامٌ مستأنف مسوقٌ لتقرير ما سبقَ من أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُلَقَّى القرآنَ من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه عليه الصلاة والسلام من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام، وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيق مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علمًا سنيًا عزيزًا {وَقَالاَ} أي قال كلُّ واحد منهما شُكرًا لما أوتيه من العلمِ {الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} بما آتانَا من العلمِ {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازًا فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ، ومن الأوَّلِ قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} وقد مرَّ في سورة قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل: في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل: ولقد آتيناهُما علمًا فعمِلا به وعلماه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه، وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علمًا ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن، وفي تخصيصِهما الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعبترا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فُضِّل عليهم كثيرٌ وفوقَ كلَّ ذي علمٍ عليم ونِعمّا قال أميرُ المؤمنينَ عمر رضي الله عنه: كلُّ النَّاس أفقهُ من عمرَ.
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر {وَقَالَ} تشهيرًا لنعمةِ الله تعالى وتنويهًا بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها {يا أيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شيء} المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفردًا كانَ أو مُركبًا وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ.
وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه. ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ، قالوُا الله ونبيُّه أعلمُ. قالَ يقولُ: إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ. وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ: ليتَ الخلقَ لم يُخلقوا. وصاحَ طاووسٌ فقالَ يقول: كَمَا تَدينُ تُدانُ. وصاحَ هُدهدٌ فقالَ: يقول: استغفرُوا الله يا مُذنبينَ. وصاحَ طَيْطَوى، فقال: يقول: كُلُّ حيَ ميتٌ، وكلُّ جديدٍ بالٍ. وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ: يقولُ: قَدِّمُوا خيرًا تجدوه. وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ: سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى. وصاحت رخمةٌ فقال تقول: سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه. وقالَ الحِدَأةُ تقولُ: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله، والقطاةُ تقولُ: منْ سكتَ سلَمْ. والببغاءُ تقولُ: ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه، والديكُ يقولُ: اذكرُوا الله يا غافلينَ، والنَّسرُ يقولُ: يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ، والعُقابُ تقولُ: في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ: سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ. وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه: {عُلِّمنا} {وأُوتينَا} بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكًا مطاعًا لكنْ لا تجبُّرًا وتكبُّرًا بل تمهيدًا لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ. وبقولِه: {من كلِّ شيءٍ} كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ. ومثلُه قولُه تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شيء} وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ. وقال مقاتلٌ: يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ.
{إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذُكرَ من التعليمِ والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسانُ من الله تعالَى {المبين} الواضحُ الذي لا يخفى على أحدٍ أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قاله على سيبل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ» أي أقولُ هذا القولَ شُكرًا لا فخرًا ولعلَّه عليه الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كلِّ شيءٍ من الأشياءِ التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبىءُ عن ذلك.
وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} جُمع له عساكرُه {مِنَ الجن والإنس والطير} بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم، بتعميم النَّاس للكلِّ تغليبًا. وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أول الأمرِ لما أنَّ الجنَّ طائفةٌ عاتيةٌ وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يختلفُ منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ. ويجوزُ أن يكونَ ذلك لترتيب الصُّفوفِ كما هم المُعتاد في العساكرِ، وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السَّير. وتخصيصُ حسبِ أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضًا لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ، وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ. رُوي أنَّ معسكرَه عليهِ الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ، خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ. وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قواريرَ على الخشبِ ثلاثمائةُ منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ، وقد نسجتْ له الجنُّ بساطًا من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخًا في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهبٍ فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ. ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال: لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكًا عظيمًا فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال: إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنَّى ما لا تقدرُ عليه، ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ.
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل}.
حتَّى هي التي يُيتدأُ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولِه تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل} الآيةَ وهي ههنا غايةٌ لما يُنبىء عنه قوله تعالى: {فهُم يُوزعونَ} من السير كأنَّه قيلَ: فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه، وبالطَّائفِ على ما قالَه كعبٌ رضي الله عنه، وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم. وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه، من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ، ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ. وقوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم، جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النملِ مقولٌ لهم حيثُ قيل: {نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلقَ الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهمَ. وقُرىء نَمُلة يا أيُّها النَّمُل بضمِّ الميمِ، وهو الأصلُ كالرجُل، وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبُع. وقُرىء بضمِّ النونِ والميمِ. قيل: كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل: كان اسمُها طاخيةً. وقُرىء مسكنَكم. وقولُه تعالى: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهيٌ في الحقيقيةِ للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهيًا له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم: لا أرينَّك هَهُنا. فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ، كقولِ مَنْ قالَ فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السَّعة. وقُرىء لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها، وأصلُه لا يحتطمنَّكم. وقولُه تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشئون سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ، وقيل: هو استئنافٌ أي فهمَ سليمانُ ما قالتْهُ والقومُ لا يشعرونَ بذلكَ.
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا}.
تعجبًا من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسرورًا بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجًا بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها. رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ. {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرِك أصلًا. وقُرىء بفتحِ ياءِ أَوزعني. {التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرك فيه ذكرهما تكثيرًا للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتمامًا للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} في جُملتهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ. اهـ.