فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْمًا}.
كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدون حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير، وخصها مقاتل بعلم القضاء، وابن عطاء بالعلم بالله عز وجل، ولعل الأولى ما ذكر أو علمًا سنيًا غزيرًا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير؛ وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة، وربما يرجح الثاني، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعًا من العلم والمراد به علم الكيمياء {وَقَالاَ} أي قال كل منهما شكرًا لما أوتيه من العلم {الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} بما آتانا من العلم {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازًا، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز، ومن ذلك قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وتعقب بأنه إذا سلم ما ذكر فالعطف بالواو أيضًا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء، وقال العلامة الزمخشري: عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك: أعطيته فشكر إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه: ولقد آتيناهما علمًا فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجىء بالواو لأنها تستدعي إضمارًا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي، وقوله: وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي، وبقوله تعالى: {وَقَالاَ} الخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني، وفي الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده، وهو أولى مما قيل أيضًا: إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان، وممن ذهب إلى الأول من يسمي هذه الواو الواو القصيحة، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما السلام، وقيل: ذاك ومن لم يؤت علمًا أصلًا.
وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعباده تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل، والمتبادر من البعض القليل، وفي الكشاف أن في قوله تعالى: {على كَثِيرٍ} أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وتعقب بأن فيه نظرًا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين.
ورده صاحب الكشف بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه، ولما بعد تساوى الأكثر من حيث العادة لاسيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضًا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه، ألا ترى أنهم إذا قالوا: لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل. انتهى.
وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارًا} [النساء: 20] الآية: كل الناس أفقه من عمر، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب.
ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم: أنا عالم.
وقد قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما شاع من حديث «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلا يحيى بن أبي كثير موقوفًا عليه على ضعف في إسناده، ويحيى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده، وقدوهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي.
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُودَ} أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيًا ملكًا بعد موت أبيه داود عليهما السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته، وقيل: المراد وراثة النبوة فقط، وقيل: وراثة الملك فقط، وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال، وتعقب بأنه قد صح «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقد ذكره الصديق.
والفاروق رضي الله تعالى عنهما بحضرة جمع من الصحابة وهم الذين لا يخافون في الله تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضًا، ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدًا ورث سليمان صلى الله عليه وسلم، وأيضًا وراثة المال لا تختص بسليمان عليه السلام فإنه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضًا، وذكر غيره أنه عليه السلام توفي عن تسعة عشر ابنًا فالإخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وإن كان المراد الأخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود {يا أيها الناس}. إلخ.
وأيضًا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لا يخفى على منصف، والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم، فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي الله تعالى عنه ما ينافي ثبوتها، ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عز من قائل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} [فاطر: 32]، وقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} [الأعراف: 169] ولا يضر تفاوت القرينة فافهم.
وكان عمره يوم توفى داود عليهما السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر، وقيل: إن داود عليه السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر.
{وَقَالَ} تشهيرًا لنعمة الله تعالى وتعظيمًا لقدرها ودعاءً للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارًا {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم.
وقال بعض الأجلة: المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم، والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: الناس عندنا أهل العلم {عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير} أي نطقه وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردًا أو مركبًا، وقد يطلق على كل ما يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلًا، وقيل يجوز أيضًا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك.
ويحتمل الأوجه الثلاثة قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أو قال

وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم: الناطق والصامت للحيوان والجماد، والذي علمه عليه السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه، ويحكى أنه عليه السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله تعالى ونبيه أعلم قال: يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول استغفروا الله تعالى يا مذنبون، وصاح طيطوى فقال: يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: يقول قدموا خيرًا تجدوه، وصاحت رخمة فقال: تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فأخبر أنه يقال: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ: يقول كل شيء هالك إلا الله تعالى، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همه؛ والديك يقول: اذكروا الله تعالى يا غافلون والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى. انتهى.
ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله، ومع هذا الله تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية.
وقيل: كانت الطير تكلمه عليه السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية.
وقيل: علم عليه السلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه السلام وما يخاطب به بعضها بعضًا.
وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال.
ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات.
وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه علم منطقها أيضًا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندًا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعض في الأمور، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح، وزعم بعضهم أنه عليه السلام علم أيضًا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ولم أجد في ذلك خبرًا صحيحًا.
وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك.
ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال.
والضمير في {عَلِمْنَا وَأُوتِينَا} قيل: له ولأبيه عليهما السلام وهو خلاف الظاهر.
والأولى كونه له عليه السلام.
ولما كان ملكًا مطاعًا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظمًا وتكبرًا منه عليه السلام، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عز وجل من الأمور المهمة.
وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك، و{كُلٌّ} في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرًا نحو قولك: فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور.