فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن أبي إسحق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا أنهم سكنوا نون التأكيد، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم.
ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزومًا في جواب الأمر.
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا}.
تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل.
ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سرورًا بما الهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجًا بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه.
وجوز أن يكون ذلك تعجبًا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها: والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء.
وانتصب {ضاحكا} على الحال أي شارعًا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم.
وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر.
التبسم مبادىء الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة، وكان من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم:
سيد ضحكه التبسم والم ** شي الهوينا ونومه الإغفاء

وروي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكًا أي مقبلًا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث ان تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه.
وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجًا منها وأهل الجنة دخولًا الجنة.
وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وكذا في حديث أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره.
وأول الزمخشري ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة، ولعله إنما لم يقل سبحانه: فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكًا نصبًا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيًا أو إثباتًا، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث اداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذًا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط.
وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون: تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزىء وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى: {ضاحكا} لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبًا. انتهى.
ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح.
وكذا قوله تعالى: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] كما هو الظاهر.
وإن هرعت إلى التأويل قلنا والواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك منك أولوا الألباب، وفيه أيضًا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب، وقرأ ابن السميقع {ضاحكا} على أنه مصدر في موضع الحال، وجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول مطلق نحو شكرًا في قولك حمد شكرًا.
{وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي اكفه وارتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل: رب اجعلني مداومًا على شكر نعمتك، وهمزة أوزع للتعدية، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين.
وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر.
قال ابن زيد: أي حرضني.
وقال أبو عبيدة أي أو لعني.
وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمن.
وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك.
قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر.
وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك.
وقرئ: {أَوْزِعْنِى} بفتح الياء {التى أَنْعَمْتَ} أي أنعمتها، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورًا بمثل ما جربه الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسًا {عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج ذكر والديه تكثيرًا للنعمة فإن الأنعام عليهما انعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميمًا لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما، والفرق بين الوجهين ظاهر، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر.
وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعًا، ورجج الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: {اعلموا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} [سبأ: 13] بعد قوله سبحانه.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10] الخ، وقوله تعالى: {ولسليمان الريح} [الأنبياء: 81] الخ فتدبر فإنه دقيق {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا} عطف على {أَنِ اشكر} فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداومًا على العمل الصالح أيضًا.
وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتمينًا له لأن عمل الصالح شكر بالأركان، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولًا شيئًا خاصًا وهو شكر النعمة وثانيًا شيئًا عامًا وهو عمل الصالح، وقوله تعالى: {ترضياه} قيل صفة مؤكدة أو مخصصة ان أريد به كمال الرضا، واختير كونه صفة مخصصة.
والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلًا لا عقلًا ولا شرعًا {ترضاه وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} أي في جملتهم.
والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة.
وقدر بعضهم الجنة مفعولًا ثانيًا لأدخلني، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملًا صالحًا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلا العامل عملًا صالحًا، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب ادخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه ادخال الجنة، ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وكأن في ذكر {بِرَحْمَتِكَ} في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك.
ولا يأبي ما ذكر قوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى.
وقال الخفاجي: لك أن تقول أنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعًا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال باغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه.
وقيل: المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعز له عن منصب النبوة الذي هو منحة الهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى.
وقيل: المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني اذكر معهم إذا ذكروا، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين.
وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ في الاخرين} [الشعراء: 84] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية، وقيل: يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز وجل وأراد بالصالح في قوله: {فِى عِبَادِكَ الصالحين} القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن، قال في الكشاف: روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذرعن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْمًا}.
التفسير:
سليمان، والنملة، والهدهد.
مناسبة هذه القصة، لقصة فرعون، هي أن اللّه سبحانه وتعالى، يبتلى بنعمه من يشاء من عباده، فمنهم من يكفر بهذه النعم، ويتخذ منها أسلحة يحارب بها في مواقع الحق، والخير، ويضرب بها في وجه المحقين والأخيار من عباد اللّه، ومنهم من يتلقى هذه النعم بالشكران للّه، والولاء لطريق اللّه، ولمن يسلك هذا الطريق من عباده.
فهذا فرعون يمكّن اللّه له في الأرض، ويبسط له الرزق، فيتحول من إنسان إلى شيطان مريد، وإلى إعصار عاصف، يأتى على كل ما يزرع في منابت الحق والخير، ثم يبعث اللّه إليه نبيا كريما، يحمل إليه دعوة كريمة، في رفق ولين، حتى إن اللّه سبحانه وتعالى- كرما منه، وفضلا- يوصى رسوله أن يتلطف، ويترفق بهذا الإنسان، الذي ملأء الغرور، واستبد به الكفر، فيقول له الحق جل وعلا: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} (17- 19: النازعات).
فيلقى هذا النداء الكريم، وهذا اللطف اللطيف بهذا العناد اللئيم، الذي وصفه اللّه تعالى في قوله: {فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} (21- 24 النازعات).
وعلى غير هذا تماما، كان موقف عباد اللّه المؤمنين، الذين يعرفون للّه قدره، ويذكرون له فضله.
ومن هؤلاء داود وسليمان، عليهما السلام، لقد آتاهما اللّه خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم، الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، يستطيع بها أن يستولى على سلطان هذا العالم كله.
ومع هذا، فإنهما استقبلا هذه النعمة الجليلة العظيمة، بالحمد، والشكر، والولاء للّه، وخفض الجناح لعباد اللّه، ولكل ما خلق اللّه، حتى إن سليمان عليه السلام، وهو في أروع مظاهر سلطانه، وفي أعظم مجالى قدرته وقوته، يقف بين يدى أضعف مخلوقات اللّه، وهي النملة، فيأخذ منها العبرة والعظة، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطانا كسلطانه، وملكا كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان اللّه بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله. فيقول في محراب ملكها الذي تسبح فيه بحمد اللّه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ}! فأين موقف فرعون، من هذا الموقف؟ وأين الأرض من السماء؟ وأين الباطل من الحق، والعمى من الهدى؟ وأين أعداء اللّه من أولياء اللّه؟.
وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْمًا} إشارة إلى أن الذي أعطاهما اللّه إياه من العلم، هو- على عظمته وجلاله- شيء قليل، لا يكاد يذكر إلى ما اللّه سبحانه وتعالى من علم، وهذا ما يدل عليه تنكير كلمة علم فهو علم قليل قليل، مما عند اللّه من علم.