فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي قوله تعالى: {وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة أخرى إلى أن العلم الذي كان عندهما، هو وإن علوا به عن كثير من عباد اللّه، فإن في عباد اللّه من أوتى علما أكثر من علمهما، فهما أكثر من كثير من الناس علما، وأقل من بعض الناس علما.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (76: يوسف) وبهذه النظرة كانا ينظران إلى علمهما، وأنهما لم يستوليا على غاية العلم، مما هو متاح للناس، وإنما أخذا حظا كبيرا من هذا العلم.
قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}.
ميراث سليمان لداود، هو وراثة الملك من بعده، دون إخوته، ثم اختياره للنبوة، في قومه، كما كان أبوه نبيا فيهم، فالملك وراثة، والنبوة اصطفاء، لا ميراث. وقد جمعهما اللّه سبحانه لسليمان، كما جمعهما لداود.
فتلقى سليمان من اللّه ما كان لداود من ملك ونبوة، وكان بهذا قد ورث أباه في كل ما كان له من ملك ونبوة.
وقوله تعالى: {وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} هو تحدث بنعمة اللّه عليه، واستعراض لهذه النعم التي أسبغها اللّه عليه، ليكون في ذلك داعية له إلى القيام بشكرها، ورعايتها حق الرعاية.
وفي الحديث عن نفسه {بنا} الدالة على الجمع، في قوله: {علمنا}.
{وأوتينا}.. هو دعوة إلى الناس، أن يشاركوا معه في هذا التحدث بنعمة اللّه، والاستعراض لأفضاله، فما هو إلا واحد من هؤلاء الناس، وما الفضل الذي فضل اللّه به عليه، إلا فضل يأخذ منه الناس حظهم، فلا يختص به نفسه، وإنما هم شركاء له، فيما يعود عليه من هذا العلم لمنطق الطير، ولهذه النعم التي أوتى منها كل شى ء!.. وهكذا شأن أهل العلم، وأرباب الجاه والسلطان من عباد اللّه، إن ما يفتح اللّه عليهم به من علم، وما يمكّن لهم به من جاه وسلطان في هذا الوجود، هو خير متاح للناس جميعا، وتمكين لخلافتهم على هذه الأرض.
وقوله تعالى: {وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي أوتينا من كل شيء من أشياء هذه الدنيا مما ينصلح به أمرنا، ويقوم عليه وجودنا، وسلطاننا، فهو لم يؤت كل شيء، وإنما أوتى شيئا من كل شيء هو في حاجة إليه.
قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} الحشر: الجمع والحشد.
يوزعون: من الوزع، وهو السوق، والدفع، بفعل قوة خارجة، أو طبيعة غالبة.
وقد ذكر من جنود سليمان هنا: الجن، والإنس، والطير، إذ كانت هي القوى العاملة معه في دولته.
فالجن كانوا مسخرين له، في عمل ما يريد منهم.. {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} (13: سبأ).
والإنس: هم من تضمهم دولته من رعيته.
والطير: هي أجناس من الطيور، التي تعيش في جو مملكته، ويسخرها لخدمته.
وبهذا يكون له ملك ما على أرض مملكته، وما في جوها.
وطبيعى، أنه ليس كلّ الجنّ قد سخروا لسليمان، وإنما بعضهم، شأنهم في هذا شأن الناس، فليس كل الناس، كانوا في سلطان سليمان، وإنما هم الذين كانوا يعيشون في دائرة مملكته.
وكذلك الطير، فليس كلّ الطير كان مسخرا له، وإنما هي بعض الطيور التي كانت تعيش في هذه الملكة.
وكان سليمان يستعرض وجوه مملكته، من الجنّ، والإنس، والطير، ويحشدهم بين يديه، بسلطانه، الذي مكن اللّه سبحانه وتعالى له به، في هذه الرعايا، فلا يقدر أحد على أن يخرج عن هذا السلطان، الذي يزع هذه الرعايا، ويأخذ من يخالف منها بالعقاب الذي يستحقه! وفي ثمان كلمات صوّر هذا العرض العظيم، الذي جمع عوالم الجن والإنسان، والطير، وحشرها في موقف واحد، وجىء بها من كل صوب، في حركة هادفة منتظمة، أشبه بحركات الأفلاك في مداراتها، يمسكها نظام، وتظلها سكينة وجلال.
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}.
ثمانى كلمات لا غير، يقوم بها هذا المشهد، الذي تعجز أدوات البيان والتصوير كلها عن أن تأتى له بنظير، وأن تمسك بهذه الروعة وهذا الجلال.
فهذه الكلمات الثمان، قد استدعيت بها كل هذه الحشود الحاشدة، من الجن، والإنس، والطير، وقد أمسكتها يد القوة القادرة بكلمة واحدة، هي {يوزعون} التي قامت على هذه الأمم مقام الحرس والقادة، في أحدث ما عرفت الجيوش من حراسة، وضبط، وقيادة! قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
{حتى} إشارة إلى غاية من غايات للسيرة التي يسير إليها سليمان، بهذه الحشود التي احتشدت له، من الجنّ والإنس والطير.
وقد انتهت به هذه الغاية هو وجنوده إلى {واد النّمل} أي قرية من قراه، حيث يعيش النّمل جماعات، وفي نظام أشبه بنظام المجتمع الإنسانى! وقد أراد سبحانه وتعالى، أن يصغّر في عينى سليمان هذا الملك العريض الذي بين يديه، وأن يكسر من حدّة هذا السلطان المندفع كالشهاب، لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كى لا يدخل على نفسه شيء من العجب والزهو، فتقف له النملة هذا الموقف الذي يرى منه سليمان عجبا عاجبا، فيرى سليمان من النّملة ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمعه أحد غير النمل الذي يعيش معها.. {يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
هذا هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها.
إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ الجماعة حذرها، ولتدخل مساكنها، وتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق! وممن هذا الهلاك؟
من جماعة عالية، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطىء أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة! وهل يشعر من يسكن القصر، بما يعانى ساكن الكوخ؟ وكم في دنيا الناس من المستضعفين من تطؤهم أقدم الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم؟ وكم من مجتمعات بشرية بأسرها جرفها تيار عات من تيارات الطغاة والمستبدّين؟ وكم من مدن عامرة دمّرتها رحى الحروب التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود؟ وكم؟ وكم؟
إنها حكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة أضأل مخلوقات اللّه، وأقلها شأنا- على الإنسانية، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها!.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟
ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة..! فحاد بركبه عن وادي النّمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل اللّه، ونعمته، فيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ}.. ومن شكر النعمة، حراستها من أن تكون سلاح بغى وقهر. ومن العمل الصالح، إرسال هذه النعم في وجوه الخير والإحسان.
إن للنملة سلطانا كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجندا كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائما على مواقع الخير، ترتاده لرعيتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، وتحذرها منها.
فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل هذا السلطان الحكيم؟ وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ إن مقاييس الحكمة والرشاد لا تقاس بالكم ولا تحسب بالعدد، ومتى كانت المعاني كمّا وعددا؟
والعجب أن مشيخة المفسّرين يدعون مثل هذه المعاني الدقيقة، التي جاءت هذه القصة وأمثالها لها، من حيث الوقوف على مواقع العبرة والعظة فيها، ثم يشغلون أنفسهم، ويشغلون الناس معهم، بالبحث عن النملة، وهل هي ذكر أم أنثى، وعن الموضع الذي كانت فيه مملكتها، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة، ثم اسم النملة!! إي واللّه اسم النملة!! حتى لكأنها لا تكون نملة إلا إذا حملت اسما لها، وحتى لا يكون منها هذا التدبير لمملكتها إلا إذا كانت من ذوات الأسماء!! ثم ما أكثر الأسماء التي تجلب لها من كل واد من أودية الخيال.
فمن أسمائها حرس وأنها من قبيلة بنى الشّيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت في حجم الذئب، وقد لسب هذا القول إلى الحسن البصري! ومن أسمائها طاخية ومنذرة! وهكذا تكثر لها الأسماء والصفات، حتى لتخرج عن أن تكون نملة من هذه النّمال التي يعرفها النّاس، وحتى ليخرج بها ذلك عن أن تكون موضعا للعبرة والعظة!!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
كما كان في قصة موسى وإرساله إلى فرعون آياتٌ عبرةٌ ومَثَل للذين جحدوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في قصة سليمان وملكة سبأ وما رأته من آياته وإيمانها به مثَلٌ لعلم النبي صلى الله عليه وسلم وإظهارٌ لفضيلة ملكةِ سبأ إذ لم يصدها مُلكُها عن الاعتراف بآيات سليمان فآمنت به، وفي ذلك مَثَل للذين اهتدَوْا من المؤمنين.
وتقديم ذكر داود ليبْنى عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثه من أبيه داود.
ولأن في ذكر داود مثل لإفاضة الحكمة على من لم يكن متصديًا لها.
وما كان من أهل العلم بالكتاب أيامَ كان فيهم أحبارٌ وعلماء؛ فقد كان داود راعيًا غَنَم أبيه يسِّي في بيت لحم فأمر الله شمويل النبيءَ أن يجعل داود نبيئًا في مدة ملك طالوت شاول.
فما كان عجب في نبوءة محمد الأمي بين الأميين ليعلم المشركون أن الله أعطى الحكمة والنبوءة محمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعلم ذلك من قبلُ ولكن في قومه من يعلم ذلك كما قال تعالى: {ما كنتَ تعلمُها أنتَ ولا قومُك من قبل هذا} [هود: 49]، فهذه القصة تتصل بقوله تعالى: {وإنك لَتُلَقّى القرآن من لدن حكيم عليم} [النمل: 6].
فيصح أن تكون جملة: {ولقد آتينا داود} معطوفًا على {إذ قال موسى لأهله} [النمل: 7] إذا جعلنا {إذ} مفعولًا لفعل اذكر محذوف.
ويصح أن تكون الواو للاستئناف فالجملة مستأنفة.
ومناسبة الذكر ظاهرة.
وبعدُ ففي كل قصة من قصص القرآن علم وعبرة وأسوة.
وافتتاح الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين به منزلة من يتردد في ذلك لأنهم جحدوا نبوءة مثللِ داود وسليمان إذ قالوا: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} [سبأ: 31].
وتنكير {علمًا} للتعظيم لأنه علم بنبوءة وحكمة كقوله في صاحب موسى {وعلّمناه من لدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
وفي فعل {آتينا} ما يؤذن بأنه علم مفاض من عند الله، لأن الإيتاءَ أخصّ من {علّمناه} فلذلك استغني هنا عن كلمة من لدنّا.
وحكاية قولهما {الحمد لله الذي فضلنا} كناية عن تفضيلهما بفضائل غير العلم.
ألاَ ترى إلى قوله: {على كثير من عباده المؤمنين} ومنهم أهلُ العلم وغيرهم، وتنويه بأنهما شاكران نعمته.
ولأجل ذلك عطف قولهما هذا بالواو دُون الفاء لأنه ليس حمدًا لمجرد الشكر على إيتاءِ العلم.
والظاهر أن حكاية قوليهما وقعت بالمعنى، بأن قال كل واحد منهما: الحمد لله الذي فضلني، فلما حكي القولان جمع ضمير المتكلم، ويجوز أن يكون كل واحد شكر الله على منحه ومنححِ قريبه، على أنه يكثر استعمال ضمير المتكلم المشارَك لا لقصد التعظيم بل لإخفاء المتكلم نفسه بقدر الإمكان تواضعًا كما قال سليمان عقب هذا.