فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قيل: واد النمل في جهة الطائف، وقيل غير ذلك، وكله غير ظاهر من سياق الآية.
و{النمل} اسم جنس لحشرات صغيرة ذات ست أرجل تسكن في شقوق من الأرض.
وهي أصناف متفاوتة في الحجم، والواحد منه نملة بتاء الوحدة، فكلمة نملة لا تدل إلا على فرد واحد من هذا النوع دون دلالة على تذكير ولا تأنيث فقوله: {نملة} مفاده: قال واحدٌ من هذا النوع.
واقتران فعله بتاء التأنيث جرى على مراعاة صورة لفظه لشبه هائه بهاء التأنيث وإنما هي علامة الوحدة، والعرب لا يقولون: مشَى شاة، إذا كان الماشي فحلًا من الغنم، وإنما يقولون: مَشت شاة، وطارت حمامة، فلو كان ذلك الفرد ذكرًا وكان مما يفرق بين ذكره وأنثاه في أغراض الناس وأرادوا بيان كونه ذكرًا قالوا: طارت حمامة ذكر، ولا يقولون طار حمامة، لأن ذلك لا يفيد التفرقة.
ألا ترى أنه لا يصلح أن يكون علامة على كون الفاعل أنثى، ألا ترى إلى قول النابغة:
مَاذَا رُزئنا به من حَيَّة ذَكَر ** نَضناضة بالرزايا صِلِّ أصلال

فجاء باسم حية وهو اسم للجنس مقترن بهاء التأنيث، ثم وصفه بوصف ذكر ثم أجرى عليه التأنيث في قوله: نضناضة، لأنه صفة لحية.
وفي حديث ابن عباس عن صلاة العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلتُ راكبًا على حمار أتان فوصف حمارٍ الذي هو اسم جنس باسم خاص بأنثاه.
ولذلك فاقتران فعل {قالت} هنا بعلامَة التأنيث لمراعاة اللفظ فقط، على أنه لا يتعلق غرض بالتمييز بين أنثى النمل وذكره بلْه أن يتعلق به غرض القرآن لأن القصد وقوع هذا الحادث وبيان علم سليمان لا فيما دون ذلك من السفاسف.
وذكر في الكشاف: أن قتادة دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضرًا وهو غلام حَدَث، فقال لهم أبو حنيفة: سلوه عن نملة سليمان: أكانت ذكرًا أم أنثى؟ فسألوه، فأفْحِم فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله وهو قوله تعالى: {قالت نملة} ولو كانت ذكرًا لقال: قال نملة.
قال في الكشاف: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وُقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامةٍ نحو قولهم: حمامةٌ ذكر وحمامةٌ أنثى، وقولِهم: وهُو وهِي. اهـ.
ولعل مراد صاحب الكشاف إن كان قَصَدَ تأييدَ قَولة أبي حنيفة أن يقاس على الوصف بالتذكير ما يقوم مقامه في الدلالة على التفرقة بين الذكر والأنثى فتقاس حالة الفعل على حالة الوصف، إلا أن الزمخشري جاء بكلام غير صريح لا يدرى أهو تأييد لأبي حنيفة أم خروج من المضيق.
فلم يُقدم على التصريح بأن الفعل يقترن بتاء التأنيث إذا أريد التفرقة في حالة فاعله.
وقد رد عليه ابن المنيّر في الانتصاف وابن الحاجب في إيضاح المفصّل والقزويني في الكشف على الكشاف.
ورأوا أن أبا حنيفة ذهل فيما قاله بأنه لا يساعد قول أحد من أئمة اللغة ولا يشهد به استعمال ولاسيما نحاة الكوفة ببلدِه فإنهم زادوا فجوزوا تأنيث الفعل إذا كان فعله علمًا مؤنث اللفظ مثل: طلحة وحمزة.
واعلم أن إمامة أبي حنيفة في الدين والشريعة لا تنافي أن تكون مقالته في العربية غير ضليعة.
وأعجب من ذهول أبي حنيفة انفحام قتادة من مثل ذلك الكلام.
وغالب ظني أن القصة مختلقة اختلاقًا غير متقن.
ويجوز أن يخلق الله لها دلالة وللنمل الذي معها فهما لها وأن يخلق فيها إلهامًا بأن الجيش جيشُ سليمان على سبيل المعجزة له.
والحطم: حقيقته الكسر لشيء صلب.
واستعير هنا للرفس بجامع الإهلاك.
و{لا يحطمنّكم} إن جعلت {لا} فيه ناهية كانت الجملة مستأنفة تكريرًا للتحذير ودلالة على الفزع لأن المحذِّر من شيء مُفزِع يأتي بجمل متعددة للتحذير من فرط المخافة والنهي عن حطم سليمان إياهن كناية عن نهيهن عن التسبب فيه وإهمال الحذر منه كما يقال: لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعله فأَعرِفَك بفعله، والنون توكيد للنهي؛ وإن جعلت {لا} نافية كانت الجملة واقعة في جواب الأمر فكان لها حكم جواب شرط مقدّر.
فالتقدير: إن تدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان، أي يَنْتفِ حطمُ سليمان إياكنّ، وإلاّ حطمكم.
وهذا مما جوّزه في الكشاف.
وفي هذا الوجه كون الفعل مؤكدًا بالنون وهو منفي ب {لا} وذلك جائز على رأي المحققين إلا أنه قليل.
وأما من منعه من النحاة فيمنع أن تجعل {لا} نافية هنا.
وصاحب الكشاف جعله من اقتران جواب الشرط بنون التوكيد لأن جواب الأمر في الحكم جواب الشرط وهو عنده أخف من دخولها في الفعل المنفي بناءً على أن النفي يضاد التوكيد.
وتسمية سليمان في حكاية كلام النملة يجوز أن تكون حكاية بالمعنى وإنما دلت دلالة النملة على الحذر من حطم ذلك المحاذي لواديها، فلما حكيت دلالتها حكيتْ بالمعنى لا باللفظ، ويجوز أن يكون قد خلق الله علمًا في النملة علمت به أن المارّ بها يُدعى سليمان على سبيل المعجزة وخرق العادة.
وتبسُّم سليمان من قولها تبسم تعجب.
والتبسّم أضعف حالات الضحك فقوله: {ضاحكًا} حال موكدة ل {تبسَّم} وضحك الأنبياء التبسّم، كما ورد في صفة ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما يقرب من التبسّم مثل بدوّ النواجذ كما ورد في بعض صفات ضحكه.
وأما القهقهة فلا تكون للأنبياء، وفي الحديث: «كثرة الضحك تميت القلب» وإنما تعجب من أنها عرفت اسمه وأنها قالت: {وهم لا يشعرون} فوسمته وجندَه بالصلاح والرأفة وأنهم لا يقتلون ما فيه روح لغير مصلحة، وهذا تنويه برأفتِه وعدله الشامل لكل مخلوق لا فساد منه أجراه الله على نملة ليعلَم شرفَ العدل ولا يحتقِرَ مواضعه، وأن وليّ الأمر إذا عدل سرى عدله في سائر الأشياء وظهرت آثاره فيها حتى كأنه معلوم عند ما لا إدراك له، فتسير جميع أمور الأمة على عدل.
ويضرب الله الأمثال للناس، فضرب هذا المثل لنبيئه سليمان بالوحي من دلالة نملة، وذلك سر بينه وبين ربّه جعله تنبيهًا له وداعية لشكر ربّه فقال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك}.
وأوزع: مزيد وزع الذي هو بمعنى كفّ كما تقدم آنفًا، والهمزة للإزالة، أي أزال الوزع، أي الكف.
والمراد أنه لم يترك غيره كافًّا عن عمل وأرادوا بذلك الكناية عن ضد معناه، أي كناية عن الحث على العمل.
وشاع هذا الإطلاق فصار معنى أوزع أغرى بالعمل.
فالمعنى: وفِّقني للشكر، ولذلك كان حقّه أن يتعدى بالباء.
فمعنى قوله: {أوزعني} ألهمني وأغْرِني.
و{أن أشكُر نعمتك} منصوب بنزع الخافض وهو الباء.
والمعنى: اجعلني ملازمًا شكر نعمتك.
وإنما سأل الله الدوام على شكر النعمة لما في الشكر من الثواب ومن ازدياد النعم، فقد ورد: النعمة وحشية قيِّدوها بالشكر فإنها إذا شُكرت قرّت.
وإذا كُفرت فرّت.
ومن كلام الشيخ ابن عطاء الله: من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.
وفي الكشاف عند قوله: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} [لقمان: 12] وفي كلام بعض المتقدمين أن كُفران النعم بوار، وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنَها بكرم الجوار، واعلم أن سُبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترجُ لله وقارًا.
وأدرج سليمان ذكر والديه عند ذكره إنعام الله تعالى عليه لأن صلاح الولد نعمة على الوالدين بما يدخل عليهما من مسرة في الدنيا وما ينالهما من دُعائه وصدقاته عنهما من الثواب.
ووالداه هما أبوه داود بن يسّي وأمه بثشبع بنت اليعام وهي التي كانت زوجة أوريا الحِثّي فاصطفاها داود لنفسه، وهي التي جاءت فيها قصة نبأ الخصم المذكورة في سورة ص.
و{أن أعمَل} عطف على {أن أشكر}.
والإدخال في العباد الصالحين مستعار لجعله واحدًا منهم، فشبه إلحاقه بهم في الصلاح بإدخاله عليهم في زمرتهم، وسؤاله ذلك مراد به الاستمرار والزيادة من رفع الدرجات لأن لعباد الله الصالحين مراتبَ كثيرة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
وتسأل: لقد أعطى الله داود وسليمان عليهما السلام نِعَمًا كثيرة غير العلم، أَلاَن لداود الحديد، وأعطى سليمان مُلْكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الريح والجن، وعلَّمه منطق الطير. إلخ. ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إلا بالعلم وهو منهج الدين؟
قالوا: لأن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن، لا الملْك ولا المال، ولا الدنيا كلها، فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد الله على أن آتاه الله العلم؛ لأنه النعمة التي يحتاج إليها كل الخَلْق، أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته، فيمكن للإنسان الاستغناء عنها.
والإمام علي كرم الله وجهه حينما نُفِى أبو ذر؛ لأنه كان يتكلم عن المال وخطره والأبنية ومسائل الدنيا، فَنَفَوْه إلى الربذة حتى لا يثير فتنة، لكنه قبل أن يذهب مرَّ بالإمام علي كي يتوسط له ليعفوا عنه، لكن الإمام عليًا رضي الله عنه أراد ألاَّ يتدخل في هذه المسألة حتى لا يقال: إن عليًا سلَّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم، فقال له: يا أبا ذر إنك قد غضبتَ لله فارْجُ مَنْ غضبتَ له، فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم، وخِفْتهم أنت على دينك فاهرب بما خِفْتَهم عليه يعني: اهرب بدينك واترك ما خافوك عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عَمَّا منعوك.
هكذا أزال الإمام هذه الإشكال، وأظهر أهمية العلم ومنهج الله بحيث لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، ولا يعيش بدونه، وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية، في حين يستطيع الإنسان أن يعيش بدون المال وبدون الملك.
ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق: يا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم ما لك لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي: تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا، فقال: ليس عندي من الدنيا ما أخافك عليه يعني: ليس عندي مال تصادره وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وهذا نفس المنطق الذي تكلم به الإمام علي.
وقوله تعالى: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فالحمد هنا على نعمة العلم وحِفْظ منهج الله، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النبوة، حيث قالا {فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا، وليس التفضيل حَجْرًا علينا، وهذا من تواضعهما عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}.
قوله سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] أي: بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج، لا الملك لأن الأنبياء لا تورث كما جاء في الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود، وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران، بدليل قوله تعالى في موضع آخر: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
إذن: كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم، لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل، بدليل أنه قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مع أن أباه موجود، وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ الزرع الغنم التي أكلت.