فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
يقتضي حكمُ هذا الخطاب أنه أفْرَدهُما بجنسٍ من العلم لم يشارِكُهُما فيه أحدٌ؛ لأنه ذَكَرَه على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية؛ ويحتمل أنه كان بزيادة بيانٍ لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو مُعَرَّضٌ للشك فيه.
ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به، فيكون إخبارُهما عن ذلك معجزةً لهما.
ويحتمل أن يكون قوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}.
ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادةٍ لهما في البيان.
وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شَكَرَ الله على عظيم ما أنعم به عليهما.
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}.
ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه.
قوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} وكان ذلك معجزةً له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صِدْقَ إخباره عن نبوته. ومَنْ كان صاحبَ بصيرةٍ وحضور قلب بالله يشهد الأشياءَ كلّها بالله ومن الله. ويكون مُكَاشَفًا بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيءٍ تعريفاتٍ الحقِّ- سبحانه- للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجودٌ فيهم مَحْكِيٌّ عنهم. وكما أنَّ ضربَ الطّبْلِ مثلًا دليلٌ يُعْرَفُ- بالمواضعة- عند سماعه وقتُ الرحيلِ والنزولِ فالحقُّ- سبحانه- يخصُّ أهلَ الحضورِ بفنون التعريفاتِ، من سماعِ الأصواتِ وشهودِ أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل:
إذا المرءُ كانت له فِكرةٌ ** ففي كل شيءٍ له عِبْرَةً

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}.
سخَّر اللَّهُ لسليمان- عليه السلام- الجنَّ والطيرَ، فكان الجنُّ مكلَّفين، والطيرُ كانت مُسَخَّرَةً إلا أنه كان عليها شَرْعٌ، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته، حتى النمل كان سليمان يعرف خطابَهم ينفذ عليهم حُكْمه.
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}.
قيل إن سليمان استحضر أميرَ النمل الذي قال لقومه: {ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ} وقال له: أمَا عَلِمْتَ أَنِّي معصومٌ، وأَنَّي لن أُمَكِّنْ عسكري مِنْ أَنْ يطؤوكم؟ فأخبره أميرُ النمل أنّه لا يعلم ذلك؛ لأنه ليس بواجبٍ أن يكون النملُ عالمًا بعصمة سليمان. ولو قال: لعلكم أبيح لكم ذلك، لكان هذا أيضًا جائزًا.
وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان: إني أَحْمِلُ قومي على الزهد في الدنيا، وخَشِيتُ إِنْ يَرَوْكُم في مُلْكِكم أَنْ يرغبوا فيها، فأَمَرْتُهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوَّشَ عليهم زُهْدُهُم. ولَئِنْ صَحَّ هذا ففيه دليلٌ على وجوب سياسة الكبار لِمَنْ هو في رعيتهم. وفي الآية دليلٌ على حَسْنِ الاحتراز مِمّا يُخْشَى وقوعُه، وأَنَّ ذلك مما تقتضيه عادةُ النّفْسِ وما فُطِرُوا عليه من التمييز.
ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان: ما الذي أعطاك اللَّهُ من الكرامة؟
فقال: سَخّرَ لي الريحَ.
فقال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أُعْطِيتَ إلا الريح؟
وهكذا بيَّنَه الكبيرُ على لسان الصغير!.
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا}.
التبسُّمُ من الملوكِ يندر لمراعاتهم حُكْمَ السياسة، وذلك يدلُّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسُّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حُسْنَ سياسته لرعيته.
وفي القصة أنه استعرض جُنْدَه ليراهم كم هم، فَعَرَضَهم عليه، وكانوا يأتون فوجًا فوجًا، حتى مضى شَهْرٌ وسليمان واقفٌ ينظر إليهم مُعْتَبِرًا فلم ينتهوا، ومَرَّ سليمانُ عليه السلام.
وفي القصة: أن عظيم النمل كان مثل البغل في عِظَمِ الجثة، وله خرطوم. والله أعلم.
قوله جلّ ذكره: {رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضاهُ}.
في ذلك دليلٌ على أن نَظَرَه إليهم كان نَظَرَ اعتبارٍ، وأنه رأى تعريفَ الله إِياه ذلك، وتنبيهُه عليه من جملة نِعَمِه التي يجب عليها الشكرُ.
وفي قوله: {وَعَلَى وَالِدَىَّ} دليلٌ على أَنَّ شُكْرَ الشاكر لله لا يختص بما أَنْعَمَ به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خَصَّ وَعَمَّ من نِعَمِه.
قوله جلّ ذكره: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
سأل حُسْنَ العاقبة. لأنَّ الصالحَ من عباده مَنْ هو مختوم له بالسعادة. اهـ.

.قال السبكي:

قال الشيخ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ ابْتِدَاءُ دَرْسٍ عَمِلَهُ لِوَلَدِهِ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ عُمْدَةِ الْمُحَقِّقِينَ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ دَرَّسَ بِهِ فِي الْمَدْرَسَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشْرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَلْقَاهُ الْعَلَّامَةُ بِحُضُورِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} الْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا إنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ- أَعْنِي الْقِصَصَ الْمَذْكُورَةَ- بَيَانٌ لِقوله: {وَإِنَّك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} وَمِنْ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ مَا اتَّفَقَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ وَمَا آتَاهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَلَمَّا كَانَ مُوسَى وَدَاوُد وَسُلَيْمَانُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَمُوسَى مِنْ أَوْلَادِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ وَهُوَ إسْرَائِيلُ؛ ذَكَرَ الْقِصَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَقَدَّمَ الْقِصَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الزَّمَانِ وَهِيَ قِصَّةُ مُوسَى ثُمَّ تَلَاهَا بِهَذِهِ وَقَدْ اشْتَرَكَتَا فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ نَصْرِهِمْ وَاسْتِنْقَاذِهِمْ مِنْ يَدِ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِهِ وَذَهَابِ مُلْكِهِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ وَتَوْرِيثِهِمْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
وَأَمْرُهُمْ مُتَزَايِدٌ مِنْ لَدُنْ عُرِفَ فِرْعَوْنُ بِبَرَكَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ مَلَكَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مَعَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخَصَائِصِ الْعَظِيمَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي تَعْظِيمُ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى دَاوُد وَسُلَيْمَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَنْحَصِرُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْعِلْمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ كُلِّهَا، فَلَقَدْ كَانَ دَاوُد مِنْ أَعْبَدْ الْبَشَرِ كَمَا صَحَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ وَلِابْنِهِ سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ لِأَحَدٍ، وَجَعَلَ الْعِلْمَ أَصْلًا لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَشَارَا هُمَا أَيْضًا إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} عَقِيبَ قوله: {آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} وَمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا شَكَرَا مَا آتَاهُمَا إيَّاهُ وَأَنَّ سَبَبَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا قَالَ وَقَالَا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك فَشُكْرًا، وَيَكُونُ الشُّكْرُ حِينَئِذٍ هُوَ قَوْلُهُمَا ذَلِكَ لَا غَيْرُ، فَعَدَلَ إلَى الْوَاوِ لِيُشِيرَ إلَى الْجَمْعِ فِي الْإِيتَاءِ لَهُمَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَقَوْلِهِمَا ذَلِكَ الْمُحَقِّقَ لِمَقْصُودِ الْعِلْمِ مِنْ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَةِ وَكُلِّ خَصْلَةٍ حَمِيدَةٍ؛ فَلِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا: أَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ، وَلِهَذَا مِدَادُ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ وَأَعْظَمُ مَا عِنْدَ الْمُجَاهِدِ دَمُهُ وَأَهْوَنُ مَا عِنْدَ الْعَالَمِ مِدَادُهُ، فَمَا ظَنُّك بِأَشْرَفِ مَا عِنْدَ الْعَالَمِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالتَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ.
وَلِذَلِكَ جُعِلُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد}.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي قَوْلِهِ: {دَاوُد وَسُلَيْمَانَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ أَوْ نَقِيضَهُ، بَلْ هِيَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ إيتَاءَ دَاوُد قَبْلَ إيتَاءِ سُلَيْمَانَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَرَدَتْ الْوَاوُ فِيهِ مِمَّا يُعْلَمُ التَّرْتِيبُ فِيهِ مِنْ خَارِجٍ كَهَذِهِ الْآيَةِ لَنَا فِيهِ طَرِيقَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونُ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فَتَكُونُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَلَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِكَوْنِ ذَلِكَ مُرَتَّبًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ حَاصِلٌ مَعَ التَّرْتِيبِ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّرْتِيبِ فَيَلْزَمُ التَّجَوُّزُ فِي الْحُرُوفِ إذَا قُلْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُتَوَاطِئَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَانَ مَجَازًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُطْلَقَ اللَّفْظُ الْأَعَمُّ وَيُرَادُ بِهِ الْأَخَصُّ وَبَيْنَ أَنْ يُطْلَقَ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْأَخَصُّ بَلْ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَعَمُّ وَإِنْ عُلِمَ مِنْ خَارِجٍ أَنَّ الْوَاقِعَ التَّرْتِيبُ وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ هَذَا الْبَحْثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ فِي الْخَاصِّ يَجْرِي فِي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} هَلْ هُوَ حَمْدٌ أَوْ شُكْرٌ؟ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَحْثِ بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَتَيْنِ أَحَدَاهُمَا أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمِمَّا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ، وَالشُّكْرُ هُوَ الثَّنَاءُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ.
وَقِيلَ الْحَمْدُ الثَّنَاءُ بِمَا فِيهِ وَالشُّكْرُ بِمَا مِنْهُ؛ فَيَكُونَانِ خَاصَّيْنِ تَحْتَ أَعَمِّ، وَهُوَ مُطْلَقُ الثَّنَاءِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُتَبَايِنَيْنِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي عَلَى هَذَا أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَمْدٌ وَأَنَّهُ شُكْرٌ.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ فَقَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ، فَيَكُونُ شُكْرًا، فَعَلَى الْأُولَى أَنَّ جَعَلْنَا الْحَمْدَ أَعَمَّ مُطْلَقًا فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَيَكُونُ مَجَازًا وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً حَتَّى يُرَادَ الْأَعَمُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْحَمْدَ الثَّنَاءَ بِمَا فِيهِ فَقَطْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً.
وَعَلَى الثَّانِي- وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الثَّنَاءُ بِمَا مِنْهُ فَقَطْ- يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ سَوَاءٌ أَجَعَلْنَا الْحَمْدَ أَعَمَّ مُطْلَقًا أَمْ لَا.
أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ كَاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ فِي الْخَاصِّ فَيَكُونُ مَجَازًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ، وَقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} وَنَحْوُهُ كَقَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ الْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ صِفَتِهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْرِيضَ بِحُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَيَكُونُ ثَنَاءً بِالنِّعْمَةِ فَيَكُونُ شُكْرًا، فَيَعُودُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ وَيَتَرَجَّحُ أَنَّهُ مَجَازٌ.
وَقَوْلُنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَنَحْوُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ ثَنَاءٌ بِالنِّعَمِ فَتَظْهَرُ فِيهِ جِهَةُ الْمَجَازِ وَيَكُونُ شُكْرًا لَا حَمْدًا مُجَرَّدًا وَإِنَّمَا قُلْت لَا حَمْدًا لِأَنَّ كُلَّ شُكْرٍ حَمْدٌ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ أَخُصُّ وَأَنَّ الْحَمْدَ هُوَ مُطْلَقُ الثَّنَاءِ بِمَا فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا مِنْهُ؛ لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَقَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ الشُّكْرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَنْ يُحْمَدَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّرَّاءَ تُوجِبُ الشُّكْرَ، وَالضَّرَّاءَ تُوجِبُ الصَّبْرَ الْمُوجِبَ لِلثَّوَابِ الْمُوجِبِ لِلشُّكْرِ، فَهِيَ نِعْمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ.
فَالْأَحْوَالُ كُلُّهَا نِعَمٌ، فَيَصِيرُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا فِي الشُّكْرِ وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ الثَّنَاءُ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ ضَرَّاءُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ الثَّنَاءَ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنْقَصُ مِنْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ قوله: {عِلْمًا} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِتَنْكِيرِهِ تَعْظِيمَهُ أَيْ عِلْمًا أَيَّ عِلْمٍ، وَيَكُونُ تَفْضِيلُهُمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اسْتَعْمَلَ الْعِلْمَ لِلْأَعَمِّ فِيمَا هُوَ أَخُصُّ مِنْهُ، فَيَعُودُ الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ وَحُذِفَتْ صِفَتُهُ أَيْ عِلْمًا عَظِيمًا، فَيَكُونُ الْعِلْمُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ مَعَهُ حَذْفٌ وَفِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ؛ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ لَا يَخْتَلِفُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الْعِلْمِ فَلَا مَجَازَ وَلَا إضْمَارَ بَيْنَهُمَا، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْعِلْمِ مُسْتَوْجِبٌ لَأَنْ يُقَالَ فِيهِ ذَلِكَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُوصَفَ بِهِ خَوَاصُّ الْعِبَادِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَيَكُونُ بِالْعِلْمِ الْخَاصِّ الْعَظِيمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْلُغُ فِي بَيَانِ شَرَفِ الْعِلْمِ وَالْقَوْمِ الْأَوْزَاعِ وَمِنْ قَوْلِك تَوَزَّعُوا الْمَالَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَنْ أَشْكُرَ مَفْعُولًا صَرِيحًا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِك عِنْدِي وَأَكُفُّهُ وَأَرْتَبِطُهُ لَا تَنْقَلِبُ عَنِّي حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَك وَقوله: {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يَعْنِي مِنْ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ {وَعَلَى وَالِدَيَّ} يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَيَّ وَنِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَى وَالِدَيَّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيَكُونَانِ نِعْمَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَاحِدٍ؛ وَيَكُنْ قِيَامُ سُلَيْمَانَ بِشُكْرِ نِعْمَةِ أَبِيهِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى أَبِيهِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَيَفْتَخِرُ بِهِ.
وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ نَظَرٌ، وَسَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا نِعْمَتَيْنِ أَوْ نِعْمَةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَبِ.
وَيَقُومُ الِابْنُ بِشُكْرِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نِعْمَتُك الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَيَّ، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى وَالِدَيَّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْوَلَدِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ؛ لاسيما النِّعْمَةُ الرَّاجِعَةُ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَقِيًّا نَفَعَهُمَا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمَا كُلَّمَا دَعُوا، وَقَالُوا لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْك وَعَنْ وَالِدَيْك.
وَقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} إنَّمَا قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الشُّكْرَ عَمَلُ الْقَلْبِ.
وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ؛ وَلِأَنَّ الشُّكْرَ عَلَى النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ صَالِحٌ يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَالِحٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْإِخْلَاصُ فَإِذَا كَانَ صَالِحًا مُخْلِصًا فِيهِ كَانَ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا.
قَالَ الْفُضَيْلُ: إنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا إلَّا إذَا كَانَ صَوَابًا خَالِصًا.
وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ.
وَقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ بِرَحْمَتِهِ لَا بِالْعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِك الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ فَوْقَ دَرَجَةِ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ أَشَارَ إلَى الْكَمَالِ وَإِلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ. اهـ.