فصل: تفسير الآيات (20- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (20- 26):

قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فوصل إلى المنزل الذي قصده فنزله وتفقد أحوال جنوده كما يقتضيه العناية بأمور الملك، أي تجنب فقدهم بأن تعرف من هو منهم موجود ومن هو منهم مفقود، الذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم: {وتفقد الطير} إذ كانت أحد أركان جنده ففقد الهدهد {فقال ما لي} أي أيّ شيء حصل لي حال كوني {لا أرى الهدهد} أي أهو حاضر، وستره عني ساتر، وقوله: {أم كان من الغائبين} كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام.
ثم قال على سبيل الاستئناف إقامة لسياسة الملك ما يدل أيضًا على عظمته، قالوا: إنه يرى الماء في الأرض كما يرى الإنسان الماء من داخل الزجاج فينقر الأرض فتأتي الشياطين فتستخرجه: {لأعذبنه} أي بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذابًا شديدًا} أي مع إبقاء روحه تأديبًا له وردعًا لأمثاله {أو لأذبحنه} أي تأديبًا لغيره {أو ليأتيني} أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء، أو تكون {أو} الثانية بمعنى إلا أن فيكون المعنى: ليكونن أحد الأمرين: التعذيب أو الذبح: إلا أن يأتيني {بسلطان مبين} أي حجة واضحة في عذره، فكأنه قال: والله ليقيمن عذره أو لأفعلن معه أحد الأمرين {فمكث} أي فترتب على ذلك أنه مكث بعد الحلف بالتهديد زمانًا قريبًا {غير بعيد} من زمان التهديد، وأتى خوفًا من هيبة سليمان عليه السلام، وقيامًا بما يجب عليه من الخدمة، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية، وضمه الجماعة إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام حركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام {فقال} عقب إتيانه مفخمًا للشأن ومعظمًا لرتبة العلم ودافعًا لما علم أنه أضمر من عقوبته: {أحطت} أي علمًا {بما لم تحط به} أي أنت من اتساع علمك وامتداد ملكك، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي ما لا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله، وفيه إبطال لقول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه من هو أعلم منه.
ولما أبهمه تشويقًا، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه، ثنى بمدح الخبر مجليًا بعض إبهامه، هزًا للنفس إلى طلب إتمامه، فقال: {وجئتك} أي الآن {من سبإ} قيل: إنه اسم رجل صار علمًا لقبيلة، وقيل: أرض في بلاد اليمن، وحكمة تسكين قنبل له بنية الوقف الإشارة إلى تحقير أمرهم بالنسبة إلى نبي الله سليمان عليه السلام بأنهم ليست لهم معه حركة أصلًا على ما هم فيه من الفخامة والعز والبأس الشديد {بنبإ} أي خبر عظيم {يقين} وهو من أبدع الكلام موازنة في اللفظ ومجانسة في الخط مع ما له من الانطباع والرونق، فكأنه قيل: ما هو؟ فقال: {إني وجدت امرأة} وهي بلقيس بنت شراحيل {تملكهم} أي أهل سبأ.
ولما كانت قد أوتيت من كل ما يحتاج إليه الملوك أمرًا كبيرًا قال: {وأوتيت} بنى الفعل للمفعول إقرارًا بأنها مع ملكها مربوبة {من كل شيء} تهويلًا لما رأى من أمرها.
ولما كان عرشها- أي السرير الذي تجلس عليه للحكم- زائدًا في العظمة، خصه بقوله: {ولها عرش} أي سرير تجلس عليه للحكم {عظيم} أي لم أر لأحد مثله.
ولما كان في الخدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله فحصل له من النورانية ما هاله لأجله إعراضهم عن الله، قال مستأنفًا تعجيبًا: {وجدتها وقومها} أي كلهم على ضلال كبير، وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي من أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم الذي لا مثل له، وهي الرتبة الأفعال لأنها مصنوع من مصنوعاته تعالى سواء كان ذلك مع الاستقلال أو الشرك {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة.
ولما تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق قال: {فصدهم عن السبيل} أي الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ولما تسبب عن ذلك ضلالهم، قال: {فهم} أي بحيث {لا يهتدون} أي لا يوجد لهم هدى، بل هم في ضلال صرف، وعمى محض.
ولما كان هذا الضلال عجبًا في نفسه فضلًا عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية، ودواء الغواية، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله: السجود، تعظيمًا له وتنويهًا به فقال: {ألا} أي لئن لا {يسجدوا} أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم، ويجوز أن يتعلق بالتزيين، أي زين لهم لئلا يسجدوا {لله} أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس، ومحط القرب، ودارة المناجاة، وآية المعافاة، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافًا، بدىء بأداة الاستفتاح تنبيهًا لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحدًا منهم بمصادفته غافلًا، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذانًا بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال، خوفًا من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله، أي لتخلصوا من أسر الشيطان، فإن السجود مرضاة للرحمن، ومجلاة للعرفان، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.
ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال: {الذي يخرج الخبء} وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلًا، وخصه بقوله: {في السماوات والأرض} لأن ذلك منتهى مشاهدتنا، فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما، وما يشرق من الكواكب ويغرب- إلى غير ذلك من الرياح، والبرد والحر، الحركة والسكون، والنطق والسكوت، وما لا يحصيه إلا الله تعالى، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.
ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال: {ويعلم ما تخفون} ولما كان هذا مستزمًا لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال: {وما تعلنون} أي يظهرون.
ولما كان هذا الوصف موجبًا لأن يعبد سبحانه وحده، صرح بما يقتضيه في قوله؛ {الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال: {لا إله إلا هو} ولما كان وصف عرشها بعظم ما، قال: {رب} أي مبدع ومدبر {العرش العظيم} أي الكامل في العظم الذي لا عظيم يدانيه، وهو محتو على جميع الأكوان، وقد ثبت أن صاحبه أعظم منه ومن كل عظيم بآية الكرسي وبغيرها، فقطع ذلك لسان التعنت عند ذكره مع مزيد اقتضاء السياق له لأنه للانفراد بالإلهية المقتضية للقهر والكبر بخلاف آية المؤمنون، وهذه آية سجدة على كل القراءتين، لأن مواضع السجود إما مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، كقراءة التشديد، أو أمر بالسجود كقراءة التخفيف، والكل ناظر إلى العظمة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}.
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه: أحدها: قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده وثانيها: أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها: أنه كان يظله من الشمس، فلما فقد ذلك تفقده.
أما قوله: {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، ومثله قولهم: إنها لإبل أم شاء.
أما قوله: {لأُعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب، ثم اختلفوا في قوله: {لأُعَذّبَنَّهُ} فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل أن يلقى للنمل فتأكله، وقيل إيداعه القفص، وقيل التفريق بينه وبين إلفه، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد، وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل لألزمنه خدمة أقرانه.
أما قوله: {فَمَكَثَ} فقد قرئ بفتح الكاف وضمها {غَيْرَ بَعِيدٍ} غير زمان بعيد كقولك عن قريب، ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفًا من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخرًا له.
أما قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علمًا بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفًا في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلم من جميع جهاته.
أما قوله: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} فاعلم أن سبأ قرئ بالصرف ومنعه، وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسمًا للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسمًا للحي أو للأب الأكبر صرف، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، والنبأ الخبر الذي له شأن.
وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى، ولقد جاء ههنا زائدًا على الصحة فحسن لفظًا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان {بنبأ} بخبر لكان المعنى صحيحًا، ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.