فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ مِنْ الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ، كَالْغَمَامَةِ، فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ: اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ مِنْ قُرْبِهِ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ.
وَلَمْ يَقُلْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ، قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: إنَّمَا قَالَ: [مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ]؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ؟ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ.
فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: مَالِي، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ.
هَذَا فِي الْآدَابِ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ، الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا: قِفْ يَا وَقَّافٍ.
كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً: إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ.
وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى: إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ.
قَوْله تَعَالَى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَهْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَمَارَاتِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّيْرِ عَقْلٌ، وَلَا كَانَ لِلْبَهَائِمِ عِلْمٌ، وَلَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ عِلْمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ.
وَقَاتَلَهُمْ اللَّهُ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْخَلْقِ فَضْلًا عَنْ الْخَالِقِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجُرْمِ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ، أَمَّا إنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَحْكَامِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ: عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ.
قَوْله تَعَالَى: {إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ، وَأُمُّهَا جِنِّيَّةٌ بِنْتُ أَرْبَعِينَ مَلِكًا.
وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ الْجِنَّ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَلِدُونَ وَكَذَبُوا لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ مَعَ الْإِنْسِ جَائِزٌ عَقْلًا.
فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا بَقَيْنَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَأٍ هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ، وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ»، أَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْقَبِيلَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ، قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي. فَلَمَّا خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي مَا فَعَلَ الْقَطِيفِيُّ؟ فَأَخْبَرَ بِأَنِّي قَدْ سِرْت. قَالَ: فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي، فَأَتَيْته، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اُدْعُ الْقَوْمَ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ لَك. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنْزَلَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا سَبَأٌ؟ أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ؟ فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَحِمْيَرُ، وَكِنْدَةُ، وَمِذْحَجُ، وَأَنْمَارٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَمَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبُجَيْلَةُ».
وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ آخَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً.
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً، وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً؛ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ؛ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا [إنَّمَا] تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً».
وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ، وَلَمْ يَصِحَّ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِي مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَمَاحَلَ وَنَصَرَ ابْنُ طَرَارٍ لِمَا يُنْسَبُ إلَى ابْنِ جَرِيرٍ، عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ التَّجَادُلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِهَا اسْتِخْرَاجًا لِلْأَدِلَّةِ وَتَمَرُّنًا فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِلْمَعَانِي؛ فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَرْأَةِ، كَإِمْكَانِهِ مِنْ الرَّجُلِ.
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا حِفْظُ الثُّغُورِ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ، وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى مِنْ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيه مِنْ الرَّجُلِ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَصْلُ الشَّرْعِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّقْضِ، يُرِيدُ: وَالنَّقْضُ لَا يُعَلَّلُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ، وَتَكُونُ مَنْظَرَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُفْلِحْ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا، وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَال لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ}.
قيل إن سليمان كان إذا سافر أظله الطير من الشمس، فأخل الهدهد بكانه، فبان بطلوع الشمس منه بعده عنه، وكان دليله على الماء، وقيل: إن الأرض كانت كالزجاج للهدهد، يرى ما تحتها فيدل على مواضع الماء حتى يحضر، قال ابن عباس: فكانوا إذا سافروا نقر لهم الهدهد عن أقرب الماء في الأرض، فقال نافع بن الأزرق: فكيف يعلم أقرب الماء إلى الأرض ولا يعلم بالفخ حتى يأخذه بعنقه؟ فقال ابن عباس: ويحك يا نافع ألم تعلم أنه إذا جاء القدر ذهب الحذر؟ فقال سليمان عن زوال الهدهد عن مكانه {مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ} أي انتقل عن مكانه أم غاب.
{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نتف ريشه حتى لا يمتنع من شيء، قاله ابن عباس.
الثاني: أن يحوجه إلى جنسه.
الثالث: أن يجعله مع أضداده.
{أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسْلطَانٍ مُبِينٍ} فيه وجهان:
أحدهما: بحجة بينة.
الثاني: بعذر ظاهر، قاله قتادة.
قوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي أقام غير طويل ويحتمل وجهين:
أحدهما: مكث سليمان غير بعيد حتى أتاه الهدهد.
الثاني: فمكث الهدهد غير بعيد حتى أتى سليمان.
{فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بلغت ما لم تبلغه، قاله قتادة.
الثاني: علمت ما لم تعلمه، قاله سفيان.
الثالث: اطلعت على ما لم تطلع عليه، قاله ابن عباس، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي الكلام حذف تقديره. ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته.
{وَجِئْتُكَ مِنَ سَبَإٍ بِنَبإٍ يقين} أي بخبر صحيح صدق، وفي {سبأ} قولان:
أحدهما: أنها مدينة بأرض اليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، قاله قتادة، قال السدي: بعث الله إلى سبأ اثني عشر نبيًا، وقال الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ** يبنون من دون سيله العرما

الثاني: أن سبأ حي من أحياء اليمن واختلف قائلو هذا في نسبتهم إلى هذا، فذهب قوم إلى أنه اسم امرأة كانت أمهم، وروى علقمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال: «هُوَ وَلَدُ رَجُلٍ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلاَدٍ فَبِاليَمَنِ مِنهُم سِتةٌ وبالشَّامِ مِنهُم أَربَعَةٌ، فَأَمَّا اليَمَانِيونَ فَمَذحَجُ وجُهَينَةُ وَكِندَةُ وأنمارُ وَالأُزْدُ وَالأَشعَرِيونَ وأَمَّا الشامِيون فَلَخْمُ وَجذامُ وعَامِلَةُ وَغَسَّانُ» وقيل هو سبأ بن يعرب بن قحطان. قال المفضل وسُمِّيَ سبأ لأنه أول من سبأ.
قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم} قال الحسن: هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ، وقال زهير بن محمد: هي بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن الديان وأمها فارعة الجنية، وقيل ولدها أربعون ملكًا آخرهم شرحبيل. قال قتادة كان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلًا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل.
{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيءٍ} فيه قولان:
أحدهما: من كل شيء في أرضها، قاله السدي.
الثاني: من أنواع الدنيا كلها، قاله سفيان.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه السرير، قاله قتادة.
الثاني: أنه الكرسي، قاله سفيان.
الثالث: المجلس، قاله ابن زيد.
الرابع: الملك، قاله ابن بحر.
وفي قوله: {عَظِيمٌ} ثلاثة أوجه:
أحدها: ضخم.
الثاني: حسن الصنعة، قاله زهير.
الثالث: لأنه كان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وكان مسترًا بالديباج والحرير عليه سبعة تعاليق، قاله قتادة.
قال ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء فكان معها لخدمتها ستمائة امرأة.
قوله: {أَلاَّ يَسْجدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبءَ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني غيب السموات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن جبير.
الثاني: أن خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات، قاله ابن زيد، والخبء بمعنى المخبوء وقع المصدر موقع الصفة.
وفي معنى الخبء في اللغة وجهان:
أحدهما: أنه ما غاب.
الثاني: أنه ما استتر.
وقرأ الكسائي {أَلاَ يَسْجُدُواْ} بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قال الفراء: من قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدة، ومن قرأ بالتشديد فليس بموضع سجدة.
وفي قائل هذا قولان:
أحدهما: أنه قول الله تعالى أمر فيه بالسجود له، وهو أمر منه لجميع خلقه وتقدير الكلام: ألا يا ناس اسجدواْ لله.
الثاني: أنه قول الهدهد حكاه الله عنه.
ويحتمل قوله هذا وجهين:
أحدهما: أن يكون قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله.
الثاني: أن يكون قاله لسليمان عند عوده إليه واستكبارًا لما وجدهم عليه.
وفي قول الهدهد لذلك وجهان:
أحدهما: أنه وإن يكن ممن قد علم وجوب التكليف بالفعل فهو ممن قد تصور بما ألهم من الطاعة لسليمان أنه نبي مطاع لا يخالف في قول ولا عمل.
الثاني: أنه كالصبي منا إذا راهق فرآنا على عبادة الله تصوّر أن ما خالفها باطل فكذا الهدهد في تصوره أن ما خالف فعل سليمان باطل. اهـ.