فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله، ويكون {فهم لا يهتدون} معترضًا بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير: لأن لا يسجدوا.
وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى.
وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظًا سقطا خطًا.
ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب.
قال الشاعر:
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد

وقال:
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال

وقال:
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى

وقال:
ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر

وقال:
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة ** فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي

وقال:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ** وإن كان جبانًا عدا آخر الدهر

وسمع بعض العرب يقول:
ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا

ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدىء اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه.
ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالًا كبيرًا.
وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه، كان ذلك دليلًا على العامل فيه جملة النداء.
وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة.
فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به

والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:
ولا للما بهم أبدًا دواء

وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلًا، فاجتماع غير العاملين، وهما مختلفا اللفظ، يكون جائزًا، وليس يا في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم

حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعًا، أو في واحدة منهما: قلت: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذمّ للتارك؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. انتهى.
والخبء: مصدر أطلق على المخبوء، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه.
وقرأ الجمهور: الخبء، بسكون الباء والهمزة.
وقرأ أبيّ، وعيسى: بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة.
وقرأ عكرمة: بألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها، وهي قراءة عبد الله، ومالك بن دينار.
ويخرج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، ومررت بالخبي، ورأيت الخبا، وأجرى الوصل مجرى الوقف.
وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة: المرأة والكمأة، فيبدل من الهمزة ألفًا، فتفتح ما قبلها، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه.
قيل: وهي لغة ضعيفة، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضًا نادر قليل، فيعادل التخريجان.
ونقل الحركة إلى الباء، وحذف الهمزة، حكاه سيبويه، عن قوم من بني تميم وبني أسد.
وقراءة الخبا بالألف، طعن فيها أبو حاتم وقال: لا يجوز في العربية، قال: لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: الخب، وإن حولها قال: الخبي، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه.
والظاهر أن {في السموات} متعلق بالخبء، أي المخبوء في السموات.
وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد منكم. انتهى.
فعلى هذا يتعلق بيخرج، أي من في السموات.
ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره، وألهمه الله تعالى ذلك، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله: {الذي يخرج الخبء}، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله، ولذلك ورد «ما عمل عبد عملًا إلا ألقى الله عليه رداء عمله» وقرأ الحرميان والجمهور: {ما يخفون وما يعلنون} بياء الغيبة، والضمير عائد على المرأة وقومها.
وقرأ الكسائي وحفص: بتاء الخطاب، فاحتمل أن يكون خطابًا لسليمان عليه السلام والحاضرين معه، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان، وهما ليس معهما أحد.
وكما جاز له أن يخاطبه بقوله: {أحطت بما لم تحط به}، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله: {ما تخفون وما تعلنون}، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب.
والظاهر أن قوله: {ألا يسجدوا} إلى العظيم من كلام الهدهد.
وقيل: من كلام الله تعالى لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عطية: القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال صاحب الغنيان: لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم، رد الله عز وجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة.
وقيل: إنه من تمام كلام الهدهد، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين فرق، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. انتهى.
وقرأ ابن محيصن وجماعة: العظيم بالرفع، فاحتمل أن تكون صفة للعرش، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى.
واحتمل أن تكون صفة للرب، وخص العرش بالذكر، لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَتَفَقَّدَ الطير} أي تعرَّف أحوالَ الطيرِ فلم يرَ الهُدهدَ فيما بينها. {فَقَالَ مَالِىَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنَّه قالَ أولًا: ما ليَ لا أراه لساترٍ سترَه أو لسببٍ آخرَ ثمَّ بدا له أنَّه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ {لاعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} قيلَ: كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشِه وتشميسِه، وقيلَ: بجعلِه مع ضدِّه في قفضٍ، وقيل: بالتفريق بينه وبين إلفِه. {أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ. والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث. وقُرىء ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ. قيلَ: إنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء، وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحًا يؤمُّ سُهَيلًا فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضًا حسناءَ أعجبتْهُ خضرتُها فنزل ليتغدَّى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهدُ قناقه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماءَ في الزُّجاجةِ فيجيءُ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزلَ سلميانُ عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهدًا واقعًا فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سُخَّر له عن كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ. وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ.
وقولُه تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي زمانًا غيرَ مديدٍ. وقُرىء بضمِّ الكافِ. وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطيرِ وهو النَّسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ. وقالتْ: ثكلتكَ أمُّك. إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك. قال: وما استثنَى. قالتْ: بَلَى، قَالَ: أو ليأتينِّي بعذرٍ مبينٍ، فلمَّا قرُب من سليمانَ عليه السَّلامِ أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعًا له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه، فقال: يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يَدَي الله تعالى، فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علمًا ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه. وقُرىء أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ. ولاخفاءَ في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّيًا عن طورهِ وتجاوزًا عن دائرة قدرهِ، ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ، فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنه بأنَّ ذلك كان منه بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليه الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصَّلاة والسَّلام في علمِه، وتنبيهًا على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علمًا.
بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفًا له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضليةً ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم. وقد علم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعًا فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذارِ المُنبىءِ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه. {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيثُ فسَّر إبهامَه نوعَ تفسيرٍ وأراه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدَر عنهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه.