فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنه يدين سليمان في هذه الإنسانية الضالة، التي ينتمى إليها سليمان، باعتباره واحدا من عالم الناس! ثم ماذا بقي لسليمان من فضل على هذا المخلوق الضعيف؟
إن سلطان سليمان- كملك- قصر عن أن يمتد إلى ما وصل إليه سلطان الهدهد، وأحاط به علمه!.
وإن دعوته كنبيّ، لا تقوم على أكثر من هذه الدعوة التي يدعو بها الهدهد، وإن حجته على دعوته، ليست بأقوى من حجة هذا الهدهد! فماذا بقي للإنسان في أكمل صوره، وأحسن أحواله، وأعلى منازله.؟
ماذا بقي له من فضل، على أضعف مخلوقات اللّه وأقلها شأنا، كالنملة والهدهد؟
إن جهل الإنسان بأسرار هذا الوجود، هو الذي يخيل إليه أنه سيّد هذا العالم، وأنه قد علم مالم يعلمه غيره من مخلوقات اللّه.
وهذا- لا شك- رحمة من رحمة اللّه بالإنسان، إذ لو انكشف له الغطاء عن أسرار هذا الوجود، وما أودع الخالق في مخلوقاته من عجائب وأسرار- لمات الإنسان حسرة وكمدا، على ضآلة شأنه، وكثافة جهله، ولانطفأت في نفسه شعلة الأمل التي تدفىء صدره، وتغريه بالاندفاع وراء المجهول، لكشف الستر المحجّب وراءها، ولوقف من هذا الوجود موقف الذليل المهين أمام سلطان جليل مهيب، وصدق اللّه العظيم: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (85: الإسراء) ولعل خير شاهد لهذا الذي نقول، ما يعانيه الغرب اليوم من قلق نفسى، وحيرة فكرية، واضطراب سلوكيّ، ومرّد هذا كله- فيما نرى- إلى هذا القدر الضئيل، الذي انكشف للعقل من أسرار الوجود، دون أن يرتبط ذلك بالإيمان باللّه، وإضافة هذا إلى علمه وقدرته، وإبداعه في خلقه، فكان الأثر المباشر لهذا، هو ضمور شخصية الإنسان، وصغاره، وضآلة شأنه بين عوالم الوجود.
وليست هذه النظرات المتشائمة، التي قامت عليها هذه المذاهب المادية السوداء، التي يعيش فيها الغرب اليوم- ليست إلا أثرا من آثار هذه الكشوف العلمية، التي ألقت أضواء خافتة على أسرار هذا الوجود، فظهر الإنسان في شعاعاتها المضطربة المتراقصة، كأنه حشرة حقيرة، أو دودة هزيلة، أو قرد خلقه اللّه ليتسلى به في أبديته الطويلة المملة، كما يقول كبير الفلاسفة نيتشه!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}.
صيغة التفعُّل تدل على التكلف، والتكلف: الطلب.
واشتقاق {تفقّد} من الفَقْد يقتضي أن {تفقّد} بمعنى طلب الفَقد.
ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء، فالتفقد: البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيرًا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل، ومنه الهُدهد أيضًا لمعرفة الماء، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد.
وللطير جنود يقومون بشئونها.
وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها.
والمعنى: تفقَّد الطيرَ في جملة ما تفقده، فقال لمن يلون أمر الطير: {ما لي لا أرى الهدهد}.
ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية، أو بمن يكل إليه ذلك، فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال.
و{الهُدهد} نوع من الطير وهو ما يقرقر، وفي رائحته نتن وفوق رأسه قَزَعة سوداء، وهو أسود البراثن، أصفر الأجفان، يقتات الحبوب والدود، يرى الماء من بُعد ويحس به في باطن الأرض، فإذا رَفرف على موضع عُلم أن به ماء، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان.
قال الجاحظ: يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها.
وقوله: {ما لي لا أرى الهدهد} استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد، ف {ما} استفهام.
واللام من قوله: {لي} للاختصاص.
والمجرور باللام خبر عن {ما} الاستفهامية.
والتقدير: ما الأمر الذي كان لي.
وجملة: {لا أرى الهدهد} في موضع الحال من ياء المتكلم المجرورة باللام، فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال، أي عن المانع لرؤية الهدهد.
والكلام موجه إلى خفرائه، يعني: أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد.
و{أم} منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين.
و{أم} لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر.
والتقدير: بل أكان من الغائبين؟ وليست {أم} المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام.
وصاحب المفتاح مثَّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض.
ولما كان قول سليمان هذا صادرًا بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال: {لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه} لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحًا له إن كان يرجى صلاحه، أو إعدامًا له لئلا يلقِّن بالفساد غيرَه فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالًا لغيره.
فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود.
ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عُيّن له من عمل أو تغيب عنه.
وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله.
قال القرافي في تنقيح الفصول في آخر فصوله: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز؟ فكتب وأنا حاضر: إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل. اهـ.
قال القرافي: فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا تُرك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله.
قال القرافي: وقال أبو حنيفة: إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة». اهـ.
وقال الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة: ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يُقدَر على تركها.
فقول سليمان {لأعذبنه عذابًا شديدًا} شريعة منسوخة.
أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش.
و{أو} تفيد أحَدَ الأشياء فقوله: {أو ليأتيني بسلطان مبين} جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول.
والسلطان: الحجة.
والمبين: المظهر لحق المحتج بها.
وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه.
وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين {لأعذبنه لأذبحنه} باللام الموكدة التي تسمى لام القسم وبنون التوكيد ليَعلم الجند ذلك حتى إذا فُقِد الهدهد ولم يرجع يكون ذلك التأكيد زاجرًا لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فَعْلته فينالهم العقاب.
وأما تأكيد جملة: {أو ليأتيني بسلطان مبين} فلإفادة تحقيق أنه لا منجى له من العقاب إلا أن يأتي بحجة تبرّر تغيبه، لأن سياق تلك الجملة يفيد أن مضمونها عديل العقوبة.
فلما كان العقاب مؤكّدا محققًا فقد اقتضى تأكيد المخرج منه لئلا يبرئه منه إلا تحقق الإتيان بحجة ظاهرة لئلا تتوهم هوادةٌ في الإدلاء بالحجة فكان تأكيد العديل كتأكيد مُعادله.
وبهذا يظهر أن {أو} الأولى للتخيير و{أو} الثانية للتقسيم.
وقيل جيء بتوكيد جملة: {ليأتيني} مشاكلة للجملتين اللتين قبلها وتغليبًا.
واختاره بعض المحققين وليس من التحقيق.
وكتب في المصاحف {لا أذبحنه} بلاَم ألففٍ بعدها ألفٌ حتى يخال أنه نفي الذبح وليس بنفي، لأن وقوع نون التوكيد بعده يؤذن بأنه إثبات إذ لا يؤكد المنفي بنون التأكيد إلا نادرًا في كلامهم، ولأن سياق الكلام والمعنى حارس من تطرق احتمال النفي، ولأن اعتماد المسلمين في ألفاظ القرآن على الحفظ لا على الكتابة، فإن المصاحف ما كتبت حتى قرئ القرآن نَيِّفًا وعشرين سنة.
وقد تقع في رسم المصحف أشياء مخالفة لما اصطلح عليه الراسمون من بعد لأن الرسم لم يكن على تمام الضبط في صدر الإسلام وكان اعتماد العرب على حوافظهم.
وقرأ ابن كثير: {أو ليأتينَّني} بنونين، الأولى مشددة وهي نون التوكيد، والثانية نون الوقاية.
وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة بحذف نون الوقاية لتلاقي النونات.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}.
{مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا} {عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم}.
الفاء لتفريع الحكاية عطفت جملة على جملة وضمير {مكث} للهدهد.
والمكث: البقاء في المكان وملازمته زمنًا ما، وفعله من باب كرم ونصر.
وقرأه الجمهور بالأول.
وقرأ عاصم وروح عن يعقوب بالثاني.
وأطلق المكث هنا على البُطْء لأنّ الهدهد لم يكن ماكثًا بمكان ولكنه كان يطير وينتقل، فأطلق المكث على البُطء مجاز مرسل لأن المكث يستلزم زمنًا.
و{غير بعيد} صفة لاسم زمن أو اسم مكان محذوف منصوب على الظرفية، أي مكث زمنًا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، وكلا المعنيين يقتضي أنه رجع إلى سليمان بعد زمن قليل.
و{غير بعيد} قريب قربًا يوصف بضد البعد، أي يوشك أن يكون بعيدًا.
وهذا وجه إيثار التعبير ب {غيرَ بعيد} لأن {غير} تفيد دفع توهم أن يكون بعيدًا، وإنما يتوهم ذلك إذا كان القُرب يُشبه البُعد.
والبُعد والقرب حقيقتهما من أوصاف المكان ويستعاران لقلة الحصة بتشبيه الزمن القصير بالمكان القريب وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة قال تعالى: {وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89].
والفاء في {فقال} عاطفة على {مكُث} وجُعل القول عقيب المكث لأنه لما حضر صدر القول من جهته فالتعقيب حقيقي.
والقولُ المسند إلى الهدهد إنْ حمل على حقيقة القول وهو الكلام الذي من شأنه أن ينطق به الناس، فقول الهدهد هذا ليس من دلالة منطق الطير الذي عُلّمه سليمان لأن ذلك هو المنطق الدال على ما في نفوس الطير من المدركات وهي محدودة كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى: {علّمنا منطق الطير} [النمل: 16].
وليس للهدهد قِبَل بإدراك ما اشتمل عليه القول المنسوب إليه ولا باستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تَخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقه الذي عُلّم سليمانُ دلالتَه كما قدمناه.
فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد.
وأما قول سليمان {سننظر أصدقتَ أم كنتَ من الكاذبين} [النمل: 27] فيجوز أن يكون سليمان خشي أن يكون ذلك الكلام الذي سمعه من تلقاء الهدهد كلامًا ألقاه الشيطان من جانب الهدهد ليضَلّل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ليسخر به كما يسخر بالمتثائِب، فعزم سليمان على استثبات الخبر بالبحث الذي لا يترك ريبة في صحته خزيًا للشيطان.