فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن يا على قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيه كرر للتوكيد، وممن روى عنه هذا القول أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيان في البحر المحيط، قال فيه: والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب، ليست: يا فيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأن قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقة، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالًا كبيرًا، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلًا على العامل فيه جملة النداء وليس حرف النداء حرف جواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال، على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما يه: والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:
للما بهم أبدًا دواء

وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلًا فاجتماع غير العالمين، وهما مختلفا اللفظ يكون جائزًا، وليس يا في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم

حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. انتهى الغرض من كلام أَبي حيان، وما أختاره له وجه من النظر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما له وجه من النظر عندي في قراءة، الكسائي، أن يكون قوله: يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع، بلا ناصب، ولا جازم، ولا نون توكيد، ولا نون وقاية.
وقد قال بعض أهل العلم: إن حذفها لا لموجب مما ذكر لغة صحيحة.
قال النووي في شرح مسلم في الجزء السابع عشر في صفحة 207 ما نصه: قوله: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا. كذا هو في عامة النسخ، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا من غير نون وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرات.
ومنها الحديث السابق في كتاب الإيمان «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا» انتهى منه، وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة. فلا مانع من أن يكون قوله تعالى: {يَسْجُدُوا} في قراءة الكسائي فعل مضارع، ولا شك أن هذا له وجه من النظر، وقد اقتصرنا في سورة الحجر على أن حذفها مقصور على السماع، وذكرنا بعض شواهده. والعلم عند الله تعالى.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن التحقيق أن آية النمل هذه محل سجدة على كلتا القراءتين، لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود، وتوبيخه. وبه تعلم أن قول الزجاج، ومن وفقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور، وإنما هي محل سجود على قراء الكسائي، خلاف التحقيق وقد نبّه على هذا الزمخشري وغيره.
التنبيه الثاني: اعلم أنه على قراءة الجمهور، لا يحسن الوقف على قوله: {لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24] وعلى قراءة الكسائي، يحسن الوقف عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأه الباقون: يخفون، ويعلنون بالتحتية على الغيبة، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}.
مادة: فقد الفاء والقاف والدال، وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء، ومنه قوله تعالى في قصة إخوة يوسف: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71]، فإنْ جاءت بصيغة تفقَّد بالتضعيف دلَّتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه.
فمعنى {وَتَفَقَّدَ الطير} [النمل: 20] أن الرئيس او المهيمن على شيء لابد له من متابعته، وسليمان عليه السلام ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته، كأنه القائد يستعرض جنوده، وفي هذا إشارة إلى أنه عليه السلام مع أن هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره، إلا أنه لم يتركه هَمَلًا دون متابعة.
لكن، لماذا تفقَّد الطير بالذات؟ قالوا: لأنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنه يعلم مجاهلها، ويرى حتى الماء في باطن الأرض، يقولون: كما يرى أحدكم الزيت في وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقارًا طويلًا؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض، إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض.
ألاَ تراه حين كلَّم سليمان في دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] فاختار هذه المسألة بالذات؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها.
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال: {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنه لا يقصد الاستفهام، إنما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه.
لذلك قال: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} [النمل: 20] يعني: ربما هو موجود، لكنِّي لا أراه لعلّة عندي أنا، فلما دَقّق النظر وتأكد من خُلوِّ مكانه بين الطيور، قال: {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] إذن: لابد من معاقبته:
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}.
ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لأن أيِّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لابد أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها، فحين نرى موظفًا مُقصِّرًا في عمله لا يحاسبه أحد، فسوف نكون مثله، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة، وتحدث الطَّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَنْ لا يستحق.
لذلك توعَّد سليمان الهدهد: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21].
وقد تكلَّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد، فقالوا: بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور، حتى يصير لحمًا ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه، أو يجعْله مع غير بني جنسه، فلا يجد لها إلفًا ولا مشابهًا له في حركته ونظامه، أو: أنْ يُكلِّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف، أو: أجمعه مع أضداده، وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ، ونتف بعضها ريش بعض؛ لأنهم أضداد؛ لذلك قالوا: أضيق من السجن عِشْرة الأضداد.
والشاعر يقول:
وَمِنْ نكَدِ الدُّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى ** عَدُوًا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَته بُدُّ

ثم رقَّى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح، وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج الله والذين يريدون أنْ يُعدِّلوا على الله أحكامه، أثاروا إشكالًا حول قوله تعالى في حَدِّ الزنا: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] أما الرَّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء، فمن أين أتيتم به؟
نقول أتينا به أيضًا من كتاب الله، حيث قال سبحانه في جَلد الأمَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فقالوا: وكيف نُنصِّف حدَّ الرجم؟ وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لأحكام الله.
فالمعنى {فَعَلَيْهِنَّ} [النساء: 25] أي: على الإماء الجواري {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} [النساء: 25] الحرائر، ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد، فقال: {مِنَ العذاب} [النساء: 25] فتجلد الأَمَة خمسين جلدة، وهذا التخصيص يدلُّ على أن هناك عقوبة أخرى لا تُنصف هي الرجْم.
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21] أي: حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرءوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يُقدِّر لمرءوسيه اجتهاده، ويلتمس له عذرًا، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه؛ لأن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة، كما نقول في العامية الغايب حجته معاه.
إذن: المرءوس إنْ رأى خيرًا يخدم الفكر العام، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن، وفي الحرب العالمية الأولى تصرّف أحد القادة الألمان تصرُّفًا يخالف القواعد الحربية، لكنه كان سببًا في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}.
معنى {فَمَكَثَ} [النمل: 22] أقام واستقر {غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] مدة يسيرة، فلم يتأخر كثيرًا؛ لأنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان، وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجَّل العودة، وما إنْ وصل إليه إلا وبادره {فَقَالَ} [النمل: 22] بالفاء الدالة على التعقيب؛ لأنه رأى سليمان غاضبًا مُتحفِّزًا لمعاقبته.
لذلك بادره قبل أنْ ينطق، وقبل أنْ ينهره {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] أي: عرفتُ ما لم تعرف هذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها، وسخَّر الله له كل شيء؛ لذلك ذُهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
أولًا: نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسّنات البديعية في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف، وتختلفا في المعنى، كما في قول الشاعر:
رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَارِ لكُم أَسِيرُ ** وَقَلْبي في محبتكُمْ أَسير

وقَوْل الآخر:
لَمْ يَقْضِ مِنْ حقِّكم عَليَّ ** بَعْضَ الذي يَجِبُ

قَلْبٌ متَى مَا جَرَت ** ذِكْرَاكُمُ يَجِبُ

ومن الجناس التام في القرآن الكريم: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55].
فالتعبير القرآني {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] تعبير جميل لفظًا، دقيق مَعنىً، أَلاَ تراه لو قال وجئتك من سبأ بخبر لا ختلَّ اللفظ والمعنى معًا؛ لأن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر، أمّا النبا فلا تُقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر، كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 12].
والجناس لا يكون جميلًا مؤثرًا إلا إذا جاء طبيعيًا غير مُتكلّف، ومثال ذلك هذا الجناس الناقص في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فقد ورد اللفظ المناسب مُعبِّرًا عن المعنى المراد دون تكلّف، فالهُمَزة هو الذي يعيب بالقول. واللمزة: الذي يعيب بالفعل، فالقرآن لا يتصيَّد لفظًا ليُحدِث جناسًا، إنما يأتي الجناس فيه طبيعيًا يقتضيه المعنى.
ومن ذلك في الحديث الشريف: «الخيْل معقود بنواصيها الخير» فبيْن الخيل والخير جناس ناقص، مُحسِّنًا للفظ، مؤدّيًا للمعنى.
وقد يأتي المحسِّن البديعي مُضطربًا مُتكلِّفًا، يتصيده صاحبه، كقول أحدهم ينحت الكلام نحتًا فيأتي بسجع ركيك: في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب، فوقع رجل كان يحمل العنب.
ومعنى {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] الإحاطة: إدراك المعلوم من كل جوانبه، ومنه البحر المحيط لاتساعه، ويقول سبحانه: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} [النساء: 126] ومنه: الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدِّده، ومنه: يحتاط للأمر.
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف الأقطار.
لكن أَيُعَدُّ قول الهدهد لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] نقصًا في سليمان عليه السلام؟ لا، إنما يُعَدُّ تكريمًا له؛ لأن ربه عز وجل سخَّر له مَنْ يخدمه، وفَرْق بين أن تفعل أنت الشيء وبين أن يُفعل لك، فحين يفعل لك، فهذه زيادة سيادة، وعُلًُو مكانة.