فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ثم إن سليمان عليه السلام أخَّر أمر الهدهد إلى إن يبين له حقه من باطله فسوفه بالنظر في ذلك وأمر بكتاب فكتب وحمله إياه وأمره بإلقائه إلى القوم والتولي بعد ذلك، وقال وهب بن منبه أمره بالتولي حسن أدب، ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريبًا حتى ترى مراجعاتهم، وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه أي ألقه وارجع، قال وقوله: {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله: {ثم تول}.
قال القاضي أبو محمد: واتساق رتبه الكلام أظهر أي ألقه ثم تول وفي خلال ذلك {فانظر} وإنما أراد أن يكل الأمر إلى علم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح.
وقرأ نافع {فألقِه} بكسر الهاء، وفرقة {فألقهُ} بضمها، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بإشباع ياء بعد الكسرة في الهاء، وروى عنه ورش بياء بعد الهاء في الوصل، وقرأ قوم بإشباع واو بعد الضمة، وقرأ البزي عن أبي عمرو وعاصم وحمزة {فألقهْ} بسكون الهاء، وروي عن وهب بن منبه في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدرات فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عن طلوعها لمعنى عبادتها إياها فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها وظنت أنه قد دخل عليها أحد ثم قامت فوجدت حالها كما عهدته فنظرت إلى الكوة تهممًا بأمر الشمس فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)}.
في هذا الموضع اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها، و{الملأ} أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع، ووصفت الكتاب بالكرم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالًا لسليمان، وهذا قول ابن زيد، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وإما إن أرادت أنه بدىء {بسم الله} ف {كريم} ضد أجْذم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لم يبدأ باسم الله تعالى فهو أجذم»، ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب فيحتمل اللفظ أنه نص الكتاب موجزًا بليغًا وكذلك كتب الأنبياء وقدم فيه العنوان وهي عادة الناس على وجه الدهر، ثم سمى الله تعالى، ثم أمرهم بأن لا يعلوا عليه طغيانًا وكفرًا وأن يأتوه {مسلمين}، ويحتمل أنها قصدت إلى اقتضاب معانيه دون ترتيبه فأعلمتهم {أنه من سليمان} وأن معنى ما فيه كذا وكذا، وقرأ أبيّ {وأن بسم الله} بفتح الهمز وتخفيف النون وحذف الهاء، وقرأ ابن أبي عبلة أنه من {وأنه} بفتح الهمزة فيهما، وفي قراءة عبد الله {وأنه من سليمان} بزيادة، و{بسم الله الرحمن الرحيم}، استفتاح شريف بارع المعنى معبر عنه بكل وفي كل شرع، و{أن} في قوله تعالى: {أن لا تعلوا علي} يحتمل أن تكون رفعًا على البدل من {كتاب}، أو نصبًا على معنى {بأن لا تعلوا} أو مفسرة بمنزلة أي قاله سيبويه، وقرأ وهب بن منبه {أن لا تغلوا} بالغين منقوطة، قال أبو الفتح رواها وهب عن ابن عباس وهي قراءة الأشهب العقيلي ذكرها الثعلبي ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرهم وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر فكيف في هذه النازلة الكبرى، فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت، ثم سلموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع، وفي قراءة عبد الله {ما كنت قاضية أمرًا} بالضاد من القضاء، وذكر مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفًا، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة ألف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

فلما فرغ الهدهد من كلامه {قال سنَنْظُرُ} فيما أخبرتَنا به {أَصَدَقْتَ} فيما قلتَ {أم كنتَ من الكاذبِين} وإِنما شَكَّ في خبره، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان.
ثم كتب كتابًا وختمه بخاتَمه ودفعه إِلى الهدهد وقال: {اذهب بكتابي هذا فأَلقِهْ إِليهم} قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي: {فأَلْقِهي} موصولة بياء.
وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وحمزة: {فأَلْقِهْ} بسكون الهاء، وروى قالون عن نافع كسر الهاء من غير إِشباع؛ ويعني إِلى أهل سبأ، {ثُمَّ تَوَلَّ عنهم} فيه قولان:
أحدهما: أَعْرِض.
والثاني: انْصَرِف، {فانظُر ماذا يَرْجِعون} أي: ماذا يَرُدُّون من الجواب.
فإن قيل: إِذا تولَّى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن المعنى: ثم تولَّ عنهم مستترًا من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يردُّون من الجواب، وهذا قول وهب بن منبِّه.
والثاني: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: فانظر ماذا يرجعِون ثم تولّ عنهم، وهذا مذهب ابن زيد.
قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها.
وقال مقاتل: حمله في منقاره حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظُرون، فرفعت رأسها فألقي الكتاب في حِجْرها، فلما رأت الخاتَم أُرْعِدَتْ وخضعتْ وخضع مَنْ معها من الجنود.
واختلفوا لأيِّ عِلَّة سمَّتْه كريمًا على سبعة أقوال:
أحدها: لأنه كان مختومًا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: لأنها ظنَّته من عند الله عز وجل، روي عن ابن عباس أيضًا.
والثالث: أن معنى قولها {كريمٌ} حَسَنٌ ما فيه، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: لكَرَم صاحبه، فانه كان ملِكًا، ذكره ابن جرير.
والخامس: لأنه كان مَهيبًا، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والسادس: لتسخير الهدهد لحمله، حكاه الماوردي.
السابع: لأنها رأت في صدره {بسم الله الرحمن الرحيم}، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {إِنَّه من سُلَيمان} أي: إِن الكتاب من عنده {وإِنَّه} أي: وإِنَّ المكتوب {بسم الله الرحمن الرحيم ألاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ} أي: لا تتكبروا.
وقرأ ابن عباس: {تَغْلُوا} بغين معجمة {وأْتُوني مُسْلِمِينَ} أي: منقادين طائعين.
ثم استشارت قومها، ف {قالت يا أيُّها الملأُ} يعني الاشراف، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدًا، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
قال ابن عباس: كان معها مائة ألف قَيْل، مع كل قَيْل مائة ألف.
وقيل: كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف.
قوله تعالى: {أَفْتُوني في أمري} أي: بيِّنوا لي ما أفعل، وأشيروا عليَّ.
قال الفراء: جعلت المشورة فُتْيا، وذلك جائز لسَعة اللغة.
قوله تعالى: {ما كنتُ قاطعةً أمرًا} أي: فاعلته {حتى تَشْهَدُون} أي: تَحْضُرون؛ والمعنى: إِلا بحضوركم ومشورتكم.
{قالوا نحن أولُوا قُوَّة} فيه قولان:
أحدهما: أنهم أرادوا القُوَّة في الأبدان.
والثاني: كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب.
وفيما أرادوا بذلك القول قولان:
أحدهما: تفويض الأمر إِلى رأيها.
والثاني: تعريض منهم بالقتال إِن أمرتْهم.
ثم قالوا: {والأمر إِليكِ} أي: في القتال وتركه. اهـ.

.قال القرطبي:

الرابعة عشرة: قوله تعالى: {سَنَنظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح.
{أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} في مقالتك.
و{كنت} بمعنى أنت.
وقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يقل سننظر في أمرك؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله: سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك كفاء لما قاله.
الخامسة عشرة: في قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه.
وإنما صار صدق الهدهد عذرًا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد.
وفي الصحيح: «ليس أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله من أجل ذلك أنزل الكتابَ وأرسل الرسل» وقد قبل عمر عذر النعمان بن عديّ ولم يعاقبه.
ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة.
كما فعل سليمان؛ فإنه لما قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} لم يستفزه الطمع، ولا استجرّه حبّ الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} فغاظه حينئذٍ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيلِ علم ما غاب عنه من ذلك، فقال: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} ونحو منه ما رواه الصحيح عن المِسْور بن مَخْرَمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها؛ فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغُرّةِ عبدٍ أو أمة.
قال فقال عمر: ايتني بمن يشهد معك؛ قال: فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال: لا تبرح حتى تأتي بالمخرج من ذلك؛ فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد.
ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال الزجاج: فيها خمسة أوجه {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} بإثبات الياء في اللفظ.
وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالّة عليها {فَأَلِقِهِ وإِلَيْهِمِ}.
وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل {فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ}.
وبحذف الواو وإثبات الضمة {فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ}.
واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء {فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ}.
قال النحاس: وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون: يقدّر الوقف؛ وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء.
وقال: {إليهِم} على لفظ الجمع ولم يقل إليها؛ لأنه قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فكأنه قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم؛ اهتمامًا منه بأمر الدِّين، واشتغالًا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.
وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجُبَ جدران؛ فعمد إلى كُوّة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة؛ فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكُوّة تَهمُّما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت.
وقال وهب وابن زيد: كانت لها كُوّة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه، فقرأته فجمعت الملأ من قومها وخضعت، لأن مُلك سليمان عليه السلام كان في خاتمه؛ فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.