فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.
السابعة عشرة: في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبّار؛ كما تقدّم في آل عمران.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أمره بالتولّي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك.
بمعنى: وكن قريبًا حتى ترى مراجعتهم؛ قاله وهب بن منبّه.
قال ابن زيد: أمره بالتولّي بمعنى الرجوع إليه؛ أي ألقه وارجع.
قال وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} في معنى التقديم على قوله: {ثُمَّ تَوَلّ} واتساق رتبة الكلام أظهر؛ أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر.
وقيل: فاعلم؛ كقوله: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردّون من القول.
وقيل: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} بينهم من الكلام.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَتْ يا أيها الملأ} في الكلام حذف؛ والمعنى: فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ} ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالًا لسليمان عليه السلام؛ وهذا قول ابن زيد:
وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه؛ وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لأنه بدأ فيه ب {بسم الله الرحمن الرحيم} وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» وقيل: لأنه بدأ فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلّة.
وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه: من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين؛ إني أقرّ لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بَنِيّ قد أقرّوا لك بذلك.
وقيل: توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصِّل طيرًا.
وقيل: {كَرِيمٌ} حسن؛ كقوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي مجلس حسن.
وقيل: وصفته بذلك؛ لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبًّا ولا لعنًا، ولا ما يغيّر النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق؛ على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] وقوله لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44].
وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها.
وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان.
وفي قراءة عبد الله {وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَان} بزيادة واو.
الثانية: الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور؛ فإن كان لملك قالوا: العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة.
فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 41 42] فهذه عزته وليست لأحد إلا له؛ فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي؛ توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي.
الثالثة: كان رسم المتقدّمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار.
وروى الربيع عن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم.
وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه».
قال أبو الليث في كتاب البستان له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز؛ لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل؛ فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم بنفسه؛ لأن البداية بنفسه تعدّ منه استخفافًا بالمكتوب إليه وتكبّرًا عليه؛ إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه.
الرابعة: وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر.
وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبًا كما يرى رد السلام.
والله أعلم.
الخامسة: اتفقوا على كتب {بسم الله الرحمن الرحيم} في أوّل الكتب والرسائل، وعلى ختمها؛ لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختومًا فهو أغلف.
وفي الحديث: «كرم الكتاب خَتْمُه» وقال بعض الأدباء؛ هو ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابًا ولم يختمه فقد استخف به؛ لأن الختم ختم.
وقال أنس: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابًا عليه ختم؛ فاصطنع خاتمًا ونقش على فصه لا إله إلا الله محمد رسول الله وكأني أنظر إلى وبِيصِه وبياضه في كفّه.
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} {وَإنَّهُ} بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وأجاز الفراء {أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ} بفتحهما جميعًا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب؛ بمعنى ألقى إليّ أنه من سليمان.
وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض؛ أي لأنه من سليمان ولأنه؛ كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله.
وقرأ الأشهب العُقَيليّ ومحمد بن السَّمَيْقع: {أَلاَّ تَغْلُوا} بالغين المعجمة؛ وروي عن وهب بن منبّه؛ من غلا يغلوا إذا تجاوز وتكبّر.
وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة.
{وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين طائعين مؤمنين.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة البقرة القول فيه.
قال ابن عباس: كان معها ألف قَيْل.
وقيل: اثنا عشر ألف قَيْل مع كل قَيْل مائة ألف.
والقَيْل الملِك دون الملِك الأعظم.
فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، بقولها: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حتى تَشْهَدُونِ} فكيف في هذه النازلة الكبرى.
فراجعها الملأ بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوّة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع.
قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
الثانية: في هذه الآية دليل على صحة المشاورة.
وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] في آل عمران إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء.
وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب؛ فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: {قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حتى تَشْهَدُونِ} لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجِدّهم كان ذلك عونًا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوّة شوكتهم، وشدّة مدافعتهم؛ ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}.
قال ابن عباس: كان من قوّة أحدهم أنه يَركُض فرسَه حتى إذا احتدّ ضم فخذيه فحبسه بقوّته.
الثالثة: قوله تعالى: {والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} سلّموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوّة والبأس والشدّة، فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقُرى التي يتغلبون عليها.
وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما فرغ الهدهد من كلامه، وأبدى عذره في غيبته، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال: {سننظر أصدقت} في أخبارك أم كذبت.
والنظر هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في.
وعادل بين الجملتين بأم، ولم يكن التركيب أم كذبت، لأن قوله: {أم كنت من الكاذبين} أبلغ في نسبة الكذب إليه، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به.
وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب، كان متهمًا فيما أخبر به، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به.
وفي الكلام حذف تقديره: فأمر بكتابة كتاب إليهم، وبذهاب الهدهد رسولًا إليهم بالكتاب، فقال: {اذهب بكتابي هذا} أي الحاضر المكتوب الآن.
{فألقه إليهم ثم تول عنهم} أي تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول.
وفي قوله: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام.
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب.
وقال وهب: أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك، بمعنى: وكن قريبًا بحيث تسمع مراجعاتهم.
قال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع.
قال: وقوله: {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله: {ثم تولى عنهم}. انتهى.
وقاله أبو علي، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم.
وقرئ في السبعة: فألقه، بكسر الهاء وياء بعدها، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء.
وقرأ مسلم بن جندب: بضم الهاء وواو بعدها، وجمع في قوله: {إليهم} الهدهد قال: {وجدتها وقومها}.
وفي الكتاب أيضًا ضمير الجمع في قوله: {أن لا تعلوا عليّ} والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها.
ومعنى: {فانظر ماذا يرجعون} أي تأمل واستحضره في ذهنك.
وقيل معناه: فانتظر.