فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{إن} في قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ} يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية.
ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية، وقيل: يجوز كونها ناهية أيضًا، ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من {كِتَابٌ} [النمل: 29] أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا على أي أن لا تتكبروا علي كما يفعل جبابرة الملوك، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه.
والأشهب العقيلي {أَن لا تَغْلُواْ} بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لا تتجاوزا حدكم {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} عطف على ما قبله فإن كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الإنشاء على الأخبار والكلام فيه مشهور، والأكثرون على جوازه في مثل هذا.
والمراد بالإسلام الإيمان أي وأتوني مؤمنين، وقيل: المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين.
والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه السلام هو الأول.
وفي بعض الآثار كما ستعلم إن شاء الله تعالى ما يؤيده.
ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة، وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الإيمان أولًا فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة؛ وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة، وقيل: إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولًا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة.
وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصًا وهي لم تقارن التحدي، ورجح الثاني بأن قولها: {إِنَّ الملوك} [النمل: 34] الخ صريح في دعوة الملك والسلطنة.
وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذٍ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكًا وهذا كما ترى، والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص الله تعالى وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، وثانيتهما: أن فيه السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين، وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى. إلى آخر ما ذكر، ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال، وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحًا والتزامًا والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل فيا له كتاب في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز، وعن قتادة كذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملًا لا يطيلون ولا يكثرون.
هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بأنه عليه السلام كتب ذلك على الكاغد أو الرق أو غيرهما، واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب، وزعموا أن قطعهم شيئًا من القرطاس من تلك الزاوية تشبيهًا لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه السلام وهذا مما لا يعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة.
{قَالَتْ يا أيها أَيُّهَا الملؤا أَفْتُونِى في أَمْرِى} كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزها، والإفتاء على ما قال صاحب المطلع الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الإشكال كالإشكاء إزالة الشكوى، وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، وأيًا ما كان فالمعنى أشيروا علي بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذكرت لكم خلاصته، وقصدت بما ذكرت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها: {مَا كُنتُ قاطعة أَمْرًا حتى تَشْهَدُونِ} أي ما أقطع أمرًا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم، والإتيان بكان للإيذان بأنها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا و{حتى تَشْهَدُونِ} غاية للقطع.
واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة، وفي قراءة عبد الله {مَا كُنتُ لَكَ أمْرًا}.
{قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل قالوا: {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في الأجساد والعدد {وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلًا كل واحد على عشرة آلاف، وروي ذلك عن قتادة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل تحت يد كل قيل مائة ألف، وقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل، وهذه الأخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق، ولعمري أن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران الأخيران، وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم {والأمر إِلَيْكِ} تسليم للأمر إليها بعد تقدم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لا توهم أنه من العجز، والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ {وَإِلَيْكَ} متعلق بمحذوف وقع خبرًا له ويقدر مؤخرًا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق أي والأمر إليك موكول.
{فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ} من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك، وقيل: أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)}.
تقدم عند قوله: {فقال أحطت بما لم تحط به} [النمل: 22] بيان وجه تطلب سليمان تحقيق صدق خبر الهدهد.
والنظر هنا نظر العقل وهو التأمُّل، لاسيما وإقحام {كنتَ} أدخل في نسبته إلى الكذب من صيغة {أَصدقت} لأن فعل {كنتَ من الكاذبين} يفيد الرسوخ في الوصف بأنه كائن عليه.
وجملة: {من الكاذبين} أشدّ في النسبة إلى الكذب بالانخراط في سلك الكاذبين بأن يكون الكذب عادة له.
وفي ذلك إيذان بتوضيح تهمته بالكذب ليتخلص من العقاب، وإيذان بالتوبيخ والتهديد وإدخال الروع عليه بأنَّ كذبه أرجح عند الملك ليكون الهدهد مغلِّبًا الخوف على الرجاء، وذلك أدخل في التأديب على مثل فعلته وفي حرصه على تصديق نفسه بأن يبلغ الكتاب الذي يرسله معه.
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)}.
الجملة مبيِّنة لجملة {سننظر أصدقت أم كنتَ من الكاذبين} [النمل: 27] لأن فيما سينكشف بعد توجيه كتابه إلى ملكة سبأ ما يصدق خبر الهدهد إن جاء من الملكة جواب عن كتابه، أو يكذب خبر الهدهد إن لم يجىء منها جواب.
ألهم الله سليمان بحكمته أن يجعل لاتصاله ببلاد اليمن طريقَ المراسلة لإدخال المملكة في حيّز نفوذه والانتفاع باجتلاب خيراتها وجعلها طريق تجارة مع شرق مملكته فكتب إلى ملكة سبأ كتابًا لتأتيَ إليه وتدخلَ تحت طاعته وتُصلح ديانة قومها، وليعلَم أن الله ألقى في نفوس الملوك المعاصرين له رهبةً من ملكه وجلبًا لمرضاته لأن الله أيّده وإن كانت مملكته أصغر من ممالك جيرانه مثل مملكة اليمن ومملكة مصر.
وكانت مملكة سليمان يومئذ محدودة بالأُردن وتخوم مصر وبحر الروم.
ولم يزل تبادل الرسائل بين الملوك من سنة الدول ومن سنة الدعاة إلى الخير.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر.
وقَد عظُم شأن الكتابة في دول الإسلام، قال الحريري في المقامة الثانية والعشرين: والمنشيء جهنية الأخبار، وحقيبة الأسرار، وقلمه لسان الدولة، وفارس الجَولة. إلخ.
واتخذ للمراسلة وسيلة الطير الزاجل من حَمام ونحوه، فالهدهد من فصيلة الحَمام وهو قابل للتدجين، فقوله: {اذهب بكتابي هذا} يقتضي كلامًا محذوفًا وهو أن سليمان فكر في الاتصال بين مملكته وبين مملكة سبأ فأحضر كتابًا وحمَّله الهدهد.
وتقدم القول على {ماذا} عند قوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} في سورة النحل (24).
وفعل {انظر} معلق عن العمل بالاستفهام.
والإلقاء: الرمي إلى الأرض.
وتقدم في قوله تعالى: {وألقُوه في غيابات الجب} في سورة يوسف (10) وهو هنا مستعمل إمّا في حقيقته إن كان شأن الهدهد أن يصل إلى المكان فيرميَ الكتاب من منقاره، وإما في مجازه إن كان يدخل المكان المرسل إليه فيتناول أصحابه الرسالة من رجله التي تربط فيها الرسالة فيكون الإلقاء مثل قوله: {فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون} في سورة النحل (86).
والمراد بالرَّجع: رَجع الجواب عن الكتاب، أي من قبول أو رفض.
وهذا كقوله الآتي: {فانظري ماذا تأمرين} [النمل: 33].
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)}.
طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث، إذ التقدير: فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته، قالت: يا أيها الملأ. إلخ.
وجملة: {قالت} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالًا عن شأنها حين بلَغها الكتاب.
و{الملأ} الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها.
وظاهر قولها: {ألقي إليّ} أن الكتاب سُلّم إليها دون حُضور أهل مجلسها.
وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بَلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأسًا.
والإلقاء تقدم آنفًا.
ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى: {لهم مغفِرَة ورزق كريم} في سورة الأنفال (74)؛ بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفيًا كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه.
ومن ذلك أن يكون مختومًا، وقد قيل: كرم الكتاب ختمه، ليكون ما في ضمنه خاصًا باطلاع من أُرسل إليه وهو يُطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء.
قال ابن العربي: الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم} [الواقعة: 77] وأهل الزمان يصفون الكِتاب بالخَطير، والأثير، والمبرور، فإن كان لملك قالوا: العزيز، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة.
وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محمودًا عندها لأنها قالت: {إن الملوك إذا دَخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} [النمل: 34].
ثم قصَّت عليهم الكتاب حين قالت: {إنه من سليمان وإنه}. إلى آخره.
فيحتمل أن يكون قد تُرجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشُورتها، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوبًا بالعربية القحطانية، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتَّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم للملوك باللغة العربية.
أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشيء بها.
وقوله: {إنه من سليمان} هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطَبة أهل مشُورتها لإيقاظ أفهامهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدِّم في كتابه شيئًا قبل اسم الله تعالى، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضًا.
والتأكيد بإنَّ في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمُرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتمامًا يؤدَّى مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه.