فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مجاهد: جعلت لباس الغِلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان، فميَّزهم ولم يقبل هديَّتها.
وفي عدد الوصائف والوُصفاء خمسة أقوال:
أحدها: ثلاثون وصيفًا وثلاثون وصيفة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، قاله وهب.
والثالث: مائتا غلام ومائتا جارية، قاله مجاهد.
والرابع: عشرة غلمان وعشر جوارٍ، قاله ابن السائب.
والخامس: مائة وصيف ومائة وصيفة، قاله مقاتل.
وفي ما ميَّزهم به ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إِلى كفِّه، وبدأت الجارية من كفّها إِلى مرفقها، فميَّزهم بذلك، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أن الغِلمان بدؤوا بغَسْل ظُهور السَّواعد قبل بُطونها، والجواري على عكس ذلك، قاله قتادة.
والثالث: أن الغلام اغترف بيده، والجارية أفرغت على يدها، قاله السدي.
وجاء في التفسير: أنها أمرت الجواري أن يكلِّمن سليمان بكلام الرجال، وأمرت الرجال أن يكلِّموه كلام النساء، وأرسلت قَدَحًا تسأله أن يملأها ماءً ليس من [ماء] السماء ولا من ماء الأرض، فأجرى الخيل وملأه من عرقها.
قوله تعالى: {فناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلون} أي: بقَبُول أم بِردّ.
قال ابن جرير: وأصل {بِمَ} بما، وإِنما أُسقطت الألف لأن العرب إِذا كانت ما بمعنى أيّ ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا ألفها، تفريقًا بين الاستفهام والخبر، كقوله تعالى: {عَمَّ يتساءلون}؟ [النبأ: 1] و{قالوا فيم كنتم}؟ [النساء: 97]، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر:
عََى مَا قام يَشْتُمُنا لَئِيمٌ ** كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

قوله تعالى: {فلما جاء سليمانَ}.
قال الزجاج: لما جاء رسُولها، ويجوز: فلمَّا جاء بِرُّها.
قوله تعالى: {أتُمِدُّونَني بمال} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {أتُمِدُّونَني} بنونين وياء في الوصل.
وروى المسيِّبي عن نافع: {أتُمِدُّوني} بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف.
وقرأ عاصم، وابن عامر، والكسائي: {أتُمِدُّونَنِ} بغير ياء في الوصل والوقف.
وقرأ حمزة: {أتُمِدُّونِّي بمال} بنون واحدة مشددة ووقف على الياء.
قوله تعالى: {فما آتانيَ اللّهُ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {فما آتانِ اللّهُ} بكسر النون من غير ياء.
وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم: {آتانيَ} بفتح الياء.
وكلُّهم فتحوا التاء غير الكسائي، فإنه أمالها من {آتاني اللّهُ} وأمال حمزة: {أنا آتيكَ به} أشمَّ النون شيئًا من الكسر، والمعنى: فما آتاني الله، أي: من النبوَّة والملك {خيرٌ مما آتاكم} من المال {بل أنتم بهديَّتكم تَفْرَحون} يعني إِذا أهدى بعضكم إِلى بعض فرح، فأمّا أنا فلا، ثم قال للرسول: {إِرجع إِليهم فلنأتينَّهم بجنود لا قِبَلَ} أي: لا طاقة {لهم بها ولنُخرِجَنَّهم منها} يعني بلدتهم.
فلمّا رجعتْ رسلُها إِليها بالخبر، قالت: قد علمتُ أنَّه ليس بملِك وما لنا به طاقة، فبعثتْ إِليه، إِني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إِليه، ثم أمرت بعرشها فجُعل وراء سبعة أبواب، ووكَّلتْ به حرسًا يحفظونه، وشخصت إِلى سليمان في اثني عشر ألف ملِك، تحت يدي كل ملِك منهم ألوف، وكان سليمان مَهيبًا لا يُبتَدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يومًا على سرير ملكه فرأى رهجًا قريبًا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت بهذا المكان، وكان قدر فرسخ، وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها ف {قال يا أيُّها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها}. اهـ.

.قال القرطبي:

{وكذلك يَفْعَلُونَ}.
قيل: هو من قول بلقيس تأكيدًا للمعنى الذي أرادته.
قال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل معرِّفًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرًا به.
وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟ا فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتًا عظيمًا من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده؛ فسكَّتوه.
وقال الآخر: أراهم ثلاثة من العفاريت؛ فسكَّتوه؛ فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك! إن سليمان ملِك قد أعطاه مَلِكُ السماء مُلْكًا عظيمًا فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته؛ فعندها قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} قوة في الحرب واللقاء {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} ردّوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} ف {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها.
{وكذلك يَفْعَلُونَ} قال ابن الأنباري: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} هذا وقف تام؛ فقال الله عز وجل تحقيقًا لقولها: {وكذلك يَفْعَلُونَ} وشبيه به في سورة الأعراف {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} تم الكلام، فقال فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
قال ابن شجرة: هو قول بلقيس، فالوقف {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها؛ أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة: فإن كان ملكًا دنياويًا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيًا لم يرضه المال ولاَزَمَنا في أمر الدِّين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلَبِنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغُر عندهم ما جاءوا به.
وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية.
وروي عن ابن عباس: باثنتي عشرة وصيفة مذكَّرين قد ألبستهم زيّ الغلمان، واثني عشر غلامًا مؤنثين قد ألبستهم زيّ النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لَبِن الذّهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثَقْبًا معوجًا، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حِميَر، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها.
وقيل: كان الرسول واحدًا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم.
وقيل: أرسلت رجلًا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالًا ذوي رأي وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، قد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلَّمكم سليمان فكلِّموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلِّمنه بكلام فيه غِلظ يشبه كلام الرجال؛ فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله.
وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أيّ الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر؟ قالوا: يا نبيّ الله رأينا في بحر كذا دواب مُنقَّطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي؛ فأمر بها فجاءت فشدّت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبِنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها؛ ثم قال: للجن عليّ بأولادكم؛ فأقامهم أحسن ما يكون من الشباب عن يمين الميدان ويساره.
ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسيّ من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفًا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى مُلك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تَروث على لبِنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا.
وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبِنَات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرًا هائلًا فظيعًا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزُوا لا بأس عليكم؛ فكانوا يمرون على كُرْدُوس كُرْدُوس من الجنّ والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرًا حسنًا بوجه طَلْق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضَب فاعلم أنه ملِك فلا يهولنّك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشًّا لطيفًا فاعلم أنه نبيّ مرسل فتفهم قوله وردّ الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدّم.
وكانت عمدت إلى حُقَّة من ذهب فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثَّقْب، وكتبت كتابًا مع رسولها تقول فيه: إن كنت نبيًّا فميّز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحُقَّة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرّة ثَقْبًا مستويًا، وأدخل خيط الخرزة، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء؛ فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحُقَّة؟ فأتى بها فحركها، فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان.
فقال له الرسول: صدقت؛ فاثقب الدرّة، وأدخل الخيط في الخَرَزة؛ فسأل سليمان الجن والإنس عن ثَقْبها فعجزوا؛ فقال للشياطين: ما الرأي فيها؟ فقالوا: ترسل إلى الأَرَضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تصيِّر رزقي في الشجر؛ فقال لها: لكِ ذلك.
ثم قال سليمان: من لهذه الخَرَزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبيّ الله؛ فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثَّقْب حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه؛ قال: ذلك لكِ.
ثم ميز بين الغلمان والجواري.
قال السديّ: أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حَدْرًا، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميّز بينهم بهذا.
وقيل: كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحملها على الأخرى، ثم تضرب به على الوجه؛ والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبًا، والغلام يحدر على يديه؛ فميز بينهم بهذا.
وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت: إن كان نبيًا فسيعلم الذكور من الإناث؛ فأمرهم فتوضؤوا؛ فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفّه قال هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور؛ ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية؛ فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد؛ قالت لقومها: هذا أمر من السماء.
الثانية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردّها علامة على ما في نفسها؛ على ما ذكرناه من كون سليمان ملكًا أو نبيًا؛ لأنه قال لها في كتابه: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل.
وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك.