فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}.
استئناف ابتدائي لذكر بعض أجزاء القصة طوي خبر رجوع الرسل والهدية، وعلم سليمان أن ملكة سبأ لا يسعها إلا طاعته ومجيئها إليه، أو ورد له منها أنها عزمت على الحضور عنده عملًا بقوله: {وأتوني مسلمين} [النمل: 31].
ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيَّأ للدخول على الملك، أو حين جاءه الخبَر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليُرِيَها مقدرة أهل دولته.
وقد يكون عرشها محمولًا معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهيىء لها سليمان عرشًا، فإن للملوك تقادير وظنونًا يحترزون منها خشية الغضاضة.
وقوله: {آتيك} يجوز أن يكون فعلًا مضارعًا من أتى، وأن يكون اسم فاعل منه، والباء على الاحتمالين للتعدية.
ولمّا علم سليمان بأنها ستحضر عنده أراد أن يبهتها بإحضار عرشها الذي تفتخر به وتعده نادرة الدنيا، فخاطب ملأه ليظهر منهم منتهى علمهم وقوتهم.
فالباء في {بعرشها} كالباء في قوله: {فلنأتينّهم بجنود} [النمل: 37] تحتمل الوجهين.
وجملة: {قال يا أيها الملؤا} مستأنفة ابتداء لجزء من قصة.
وجملة: {قال عفريت} واقعة موقع جواب المحاورة ففصلت على أسلوب المحاورات كما تقدم غير مرة.
وجملة: {قال الذي عنده علم من الكتاب} أيضًا جواب محاورة.
ومعنى {عفريت} حسبما يستخلص من مختلف كلمات أهل اللغة أنه اسم للشديد الذي لا يصاب ولا ينال، فهو يُتَّقى لشَره.
وأصله اسم لعُتاة الجن، ويوصف به الناس على معنى التشبيه.
و{الذي عنده علم من الكتاب} رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان.
و{مِن} في قوله: {من الكتاب} ابتدائية، أي عنده علم مكتسب من الكتب، أي من الحكمة، وليس المراد بالكتاب التوراة.
وقد عدّ في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلًا أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن: {الذي عنده علم من الكتاب} هو آصف بن برخيا وأنه كان وزير سليمان.
وارتداد الطرف حقيقته: رجوع تحديق العين من جهة منظورة تَحُول عنَها لحظة.
وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك.
وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة، وأن الحكمة مكتسبة لقوله: {عنده علم من الكتاب}، وأن قوة العناصر طبيعة فيها، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضًا.
فذكر في هذه القصة مثلًا لتغلب العلم على القوة.
ولما كان هذان الرجلان مسخرَيْن لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى.
ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بلقيس.
والظاهر أن قوله: {قبل أن تقوم من مقامك} وقوله: {قبل أن يرتد إليك طرفك} مثلان في السرعة والأسرعية، والضمير البارز في {رءاه} يعود إلى العرش.
والاستقرار: التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار.
وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلِّقًا بهما إذا وقعا خبرًا أو وقعا حالًا، إذ يقدر كائن أو مستقر فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به.
وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد.
ولما ذَكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه.
فليس إحسان الله إليه إلا فضلًا محضًا، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله.
وضرب حكمة خُلقية دينية وهي: {من شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كَفر فإن ربي غني كريم}؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك.
فالكلام في قوله: {يشكر لنفسه} لام الأجْل وليست اللام التي يُعدى بها فعل الشكر في نحو: {واشكُروا لي} [البقرة: 152].
والمراد ب {من كفر} من كفر فضل الله عليه بأن عبَد غير الله، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا.
وقد تقدم عند قوله فيما تقدم: {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك} [النمل: 19].
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {فإن ربي غني كريم} دون أن يقول: فإنه غني كريم، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله: {فضل ربي}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}.
جاء معناه موضحًا في آيات متعددة، كقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] و[الجاثية: 45] وقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
جاء معناه موضحًا أيضًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] وقوله تعالى: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6] وقوله تعالى: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} [فاطر: 15] وقوله تعالى: {والله الغني وَأَنتُمُ الفقراء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}.
الملأ: أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرأي فيهم {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] هنا أيضًا مظهر من إشراقات النبوة عند سليمان، فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما تعود إليهم هديتهم، وأنهم سيسارعون إلى الإسلام، فردُّ الهدية يعني أننا أصحاب كلمة ورسالة ومبدأ ندافع عنه لا أصحاب مصلحة.
ولما علم أنهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أنْ يأتوه بعرشها، وحدَّد زمن الإتيان بهذا العرش {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38].
إذن: لابد من الذهاب إلى مملكة سبأ وفكِّ العرش، وحَمْله إلى مملكة سليمان، ثم إعادة تركيبه عنده، وهذه مهمة بالطبع فوق قدرة البشر؛ لذلك لم يتكلم منهم أحد، حتى الجن العادي لم يعرض على سليمان استعداده للقيام بهذه المهمة: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن}.
والجن في القدرة والمهارة مثل الإنس، منهم القوى الماهر، ومنهم العَييّ الذي لا يجيد شيئًا. نقول لبخة وكلمة عفريت من تعفير التراب، وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها، فمَنْ يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الآخر فيُعطلّه عن السَّبْق. فقالوا: عفريت يعني عفَّر من وراءه. أو: المعنى أنه يُعفِّر وجه مَنْ عارضه بالتراب فسُمِّي عفريتًا.
إذن: فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ، وصاحب القوة الخارقة فيهم، وهو الذي تعرَّض لهذه المهمة، وقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39].
وهذا كلام مُجْمل؛ لأن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتًا: ساعة أو ساعتين مثلًا، وقد تعهَّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني: لن يُؤخِّره إلى جلسة أخرى.
وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته، وأنه شيء نفيس يستحق الاعتناء به، خاصة في عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته فأنا عليه قوي قادر على حَمْله، ومن ناحية نفاسته وفخامته، فأنا عليه أمين لن أُبدِّد منه شيئًا.
ثم تكلَّم آخر لم يُحدِّده القرآن إلا بالوصف: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ}.
الطرف: الجِفْن الأعلى للعين.
تكلم العلماء في هذه الآية: أولًا: قالوا {الكتاب} [النمل: 40] يُراد به اللوح المحفوظ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسرارًا من اللوح المحفوظ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا: هو آصف بن برخيا، وكان رجلًا صالحًا أطلعه الله على أسرار الكون.
وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] قال هو: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] لأنه لو كان شخصًا آخر لكان له تفوُّق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية، وليس شَرْطًا في المِلك أنْ يعرف كل شيء، وإلا لَقُلْنا للمِلك: تَعَال أصلح لنا دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسبًا عكسيًا: فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فمثلًا حين تُكلِّف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما، فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في مكانه، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل المواصلات، ففرْق بين السفر بالسيارة، والسفر بالطائرة، والسفر بالصاروخ مثلًا.
وهذه تكلّمنا عنها في قصة الإسراء والمعراج فقد أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السرعة؛ لأن الله تعالى أَسْرى به، ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصوُّر البشر.