فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أنه القصر قاله ابن شجرة، واستشهد بقول الهذلي.
على طرق كنحو الظباء ** تحسب أعلامهن الصروحا

{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ماء لأن سليمان أمر الجن أن يبنوه من قوارير في ماء فبنوه وجعلوا حوله أمثال السمك فأمرها بالدخول لأنها وصفت له فأحب أن يراها.
قال مجاهد: وكانت هلباء الشعر والهلباء الطويلة الشعر، قدمها كحافر الحمار وكانت أمها جنيه. قال الحسن: وخافت الجن أن يتزوجها سليمان فيطلع منها على أشياء كانت الجن تخفيها عنه. وهذا القول بأن أمها جنية مستنكر في العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفاوت الجسمين، لأن الآدمي جسماني، والجني روحاني، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار وخلق الجني من مارج من نار، ويمتنع الامتزاج من هذا التباين ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف، لكنه قيل فذكرته حاكيًا.
{وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} فرآهما سليمان شعراوين فصنعت له الجن النورة فحلقهما، فكان أول من صنعت النورة.
واختلفواْ في السبب الذي كان من أجله أراد سليمان كشف ساقيها لدخول الصرح على ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأنه أراد أن يختبر بذلك عقلها.
الثاني: أنه ذكر له أن ساقها ساق حمار لأن أمها جنية فأحب أن يختبرها.
الثالث: لأنه أراد أن يتزوجها فأحب أن يشاهدها.
{قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} فيه قولان:
أحدهما: أنه المجلس ومنه الأمرد لملوسته، قاله علي بن عيسى.
الثاني: أنه الواسع طوله وعرضه، قاله ابن شجرة وأنشد:
غدوت صباحًا باكرًا فوجدتهم ** قبيل الضحى في البابلي الممرد

قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} فيه قولان:
أحدهما: بالشرك الذي كانت عليه، قاله ابن شجرة.
الثاني: بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة وأن سليمان يريد تغريقها فيه فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن، قاله سفيان.
{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي استسلمت مع سليمان لله طائعة لله رب العالمين.
قال مقاتل: فتزوجها سليمان واتخذ لها حمامًا ونورة بالشام، وهو أول من اتخذ ذلك، ثم لم ير إلا كذلك حتى فرق الموت بينهما، فحكى الشعبي عن ناس من حمير أنهم حفروا مقبرة الملك فوجدوا فيها أرضًا معقودة فيها امرأة عليها حلل منسوخة بالذهب وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب:-
يا أيها الأقوام عُوجوا معًا ** وأربعوا في مقبري العيسا

لتعلموا أني تلك التي ** قد كنت أدْعي الدهر بلقيسا

شيّدت قصر الملك في حمير ** قومي وقد كان مأنوسا

وكنت في ملكي وتدبيره ** أرغم في الله المعاطيسا

بَعْلي سليمان النبي الذي ** قد كان للتوراة دريسا

وسخّر الريح له مركبًا ** تهب أحيانًا رواميسا

مع ابن داود النبي الذي ** قدسه الرحمن تقديسا

اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}.
أراد سليمان عليه السلام في هذا التنكير تجربة ميزها ونظرها وليزيد في الإغراب عليها، وروت فرقة أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك وعابوها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة وبأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير عرشها، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح، لتكشف عن ساقيها عنده، وقرأ أبو حيوة {تنظُر} بضم الراء، وتنكير العرش تغيير وضعه وستر بعضه، ونحو هذا، وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك تنكيره بأن زيد فيه ونقص منه، ويعترض هذا بأن من حقها على هذا أن تقول ليس به وتكون صادقة، وقولها {كأنه هو}، تجوز فصيح ونحوه قول الله تعالى: {كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]. وقال الحسن بن الفضل شبهوا عليها فشبهت عليهم ولو قالوا هذا عرشك لقالت نعم، وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك {وأوتينا العلم من قبلها} الآية، وهذا منه على جهة تعديد نعم الله، وإنما قال ذلك لما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه، وقوله تعالى: {وصدها} الآية، يحتمل أن يكون من قول الله تعالى إخبارًا لمحمد عليه السلام والصاد ما كانت تعبد أي عن الإيمان ونحوه. وقال الرماني عن التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خشيب أو يكون الصاد سليمان عليه السلام قاله الطبري، أو يكون الصاد الله عز وجل. ولما كان {صدها} بمعنى منعها، تجاوز على هذا التأويل بغير حرف جر وإلا فبابه ألا يتعدى إلا بعن، وقرأ جمهور الناس {إنها} بكسر الهمزة، وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة {أنها} بفتح الهمزة وهو على تقدير ذلك أنها، أو على البدل من {ما}، قال محمد بن كعب القرظي وغيره ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحًا وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنيًا كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف، وبهذا جاء صرحًا، و{الصرح} أيضًا كل بناء عال، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي، فلما وصلت إليه بلقيس {قيل لها ادخلي} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف {كشفت عن ساقيها} فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر، فلما بلغا هذا الحد، قال لها سليمان {إنه صرح ممرد من قوارير}، والممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد والشجرة المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضًا المطول، ومنه قيل للحصن مارد، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم، فروي أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة، فولدت له غلامًا سماه داوود مات في حياته، و{مع} ظرف، وقيل حرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخربط {عن سأقيها} بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل {يكشف عن سأق} فأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد:
لب المؤقدان إلى موسى

ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما، وقرأ ابن مسعود {عن رجليها}، وروي أن سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله. فصنعوا النورة ولم تكن قبل الأمم، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها والإغراب عليها، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قال نكِّروا لها عرشها}.
قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس، فتُفشي إِليه أسرار الجن، لأن أُمَّها كانت جِنِّية، فلا ينفكُّون من تسخير سليمان وذرِّيَّته بعده، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إِن في عقلها شيئًا، وإِن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان [أن] يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إِلى قدميها ببناء الصرح.
قال ابن قتيبة: ومعنى {نكِّروا} غيِّروا، يقال: نكَّرت الشيء فتنكَّر، أي: غيَّرتُه فتغيَّر.
وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال:
أحدها: أنه زِيد فيه ونقص منه، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب، والياقوتَ مكان الزَّبَرْجَد، والدُّرَّ مكان اللؤلؤ، وقائمتَي الزَّبَرْجَد مكان قائمتَي الياقوت، قاله ابن عباس أيضًا.
والثالث: أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره، روي عن ابن عباس أيضًا.
والرابع: أنهم جعلوا ما كان منه أحمرَ أخضرَ، وما كان أخضر أحمر، قاله مجاهد.
والخامس: أنهم جعلوا أسفله أعلاه، ومُقَدَّمه مُؤخَّره، وزادوا فيه، ونقصوا منه، قاله قتادة.
والسادس: أنهم جعلوا فيه تماثيل السَّمك، قاله أبو صالح.
وفي قوله: {كأنّه هو} قولان:
أحدهما: أنها لمَّا رأته جعلت تَعْرِف وتُنْكِر، ثم قالت في نفسها: من أين يَخْلُص إِلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت: كأنه هو، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال قتادة: شبَّهتْه بعرشها.
وقال السدي: وجدت فيه ما تعرفه فلم تُنْكِر، ووجدت فيه ما تُنْكِره فلم تُثْبِت، فلذلك قالت: كأنه هو.
والثاني: أنَّها عرفتْه، ولكنها شبَّهتْ عليهم كما شبَّهوا [عليها]، فلو أنهم قالوا: هذا عرشكِ، لقالت: نعم، قاله مقاتل.
قال المفسرون: فقيل لها: فانه عرشكِ، فما أغنى عنكِ إِغلاق الابواب؟!
وفي قوله: {وأُوتينا العِلْم} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قول سليمان، قاله مجاهد.
ثم في معناه قولان:
أحدهما: وأُوتينا العِلْم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة.
والثاني: أُوتينا العِلْم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكُنَّا مُسْلِمِين لله.
والقول الثاني: إنه من قول بلقيس، فانها لمّا رأت عرشها، قالت: قد عرفتُ هذه الآية، وأُوتينا العِلْم بصِحَّة نبوَّة سليمان بالآيات المتقدِّمة، تعني أمر الهدهد والرُّسُلِ التي بُعثت من قَبْل هذه الآية، وكُنَّا مُسْلِمِين منقادِين لأمركَ قبل أن نجىء.
والثالث: أنه من قول قوم سليمان، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {وصدَّها ما كانت تعبُد مِنْ دون الله} قال الفراء: معنى الكلام: هي عاقلة، إِنَّما صدَّها عن عبادة الله عبادتُها الشمس والقمر، وكان عادةً من دين آبائها؛ والمعنى: وصدَّها أن تعبُد الله ما كانت تعبد، قال: وقد قيل: صدَّها سليمانُ، أي: منعها ما كانت تعبُد.
قال الزجاج: المعنى: صدَّها عن الإِيمان العادةُ التي كانت عليها، لأنها نشأت ولم تعرِف إِلا قومًا يعبُدون الشمس، وبيَّن عبادتها بقوله: {إِنَّها كانت من قوم كافرين} وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: {أنَّها كانت} بفتح الهمزة.
قوله تعالى: {قيل لها ادخُلي الصَّرْحَ} قال المفسرون: أمر الشياطين فبنَوا له صرحًا كهيئة السطح من زجاج.
وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أراد أن يريَها مُلكًا هو اعزُّ من مُلكها، قاله وهب بن منبِّه.
والثاني: أنه أراد أن ينظر إِلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، لأنه قيل له إِن رجلها كحافر الحمار، فأمر ان يُهيَّأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت، هذا قول محمد بن كعب القرظي.
والثالث: أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء، ذكره ابن جرير.
فأمّا الصَّرْح فقال ابن قتيبة: هو القصر، وجمعه: صُروح، ومنه قول الهذليِّ:
على طُرُقٍ كنحور الرِّكا ** بِ تَحْسَبُ أعلامَهنَّ الصُّروحا

قال: ويقال: الصَّرْحُ بلاطٌ اتُّخِذ لها من قَوارير، وجُعل تحتها ماءٌ وسمك.
قال مجاهد: كانت بِركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير.
وقال مقاتل: كان قصرًا من قوارير بني على الماء، وتحته السَّمك.
قوله تعالى: {حَسِبَتْه لُجَّةً} وهي: مُعْظَم الماء {وكَشَفَتْ عن ساقَيْها} لدخول الماء، فناداها سليمان {إِنَّه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي: مملَّسٌ {مِنْ قَوارير} أي: من زُجاج؛ فعلمتْ حينئذ أن مُلك سليمان من الله تعالى، ف {قالت ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي} أي: بعبادة غيرك.
وقيل: ظنَّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء، فلمَّا علمتْ أنه صَرْح ممرَّد قالت: ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي بذلك الظَّنِّ، وأسلمتُ مع سليمان، ثم تزوجها سليمان.
وقيل: إِنه ردَّها إِلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وأنها ولدت منه، وقيل: إِنه زوَّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو. اهـ.