فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن مجاهد وزهير بن محمد أن {وَأُوتِينَا} [النمل: 42] من كلام سليمان عليه السلام وفي {وَصَدَّهَا} الخ عليه أيضًا احتمال، ولا يخفى ما في جعل {وَأُوتِينَا} الخ من كلام القوم أو من سليمان سليمان عليه السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة.
وقيل: إن {وَأُوتِينَا} الخ من تتمة كلامها.
وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا} الخ ابتداء إخبار من جهته تعالى لبيان حسن حالها وسلامة إسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عز وجل أو ضمير سليمان عليه السلام.
وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها الله تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون الله أو عن الذي تعبده من دونه تعالى.
ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله: وهو ضعيف لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا

وليس من مواضع حذف حرف الجر وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لا ينشرح له الصدر، وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى: {وَصَدَّهَا} الخ متصل بقوله سبحانه: {أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] والواو فيه للحال وقد مضمرة.
وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة.
ولعمري من أنصف رأي أن ما ذكر مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد، وأنا أقول بعد القيل والقال: إن وجه ربط هذه الجمل مما يحتاج إلى تدقيق النظر فليتأمل والله تعالى الموفق.
{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} استئناف بياني كأنه قيل فماذا قيل لها بعد الامتحان المذكور؟ فقيل: {قِيلَ لَهَا ادخلى} الخ ولم يعطف على قوله تعالى: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] لئلا يفوت هذا المعنى.
وجىء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها، و{الصرح} القصر وكل بناء عال ومنه {ابن لِى صَرْحًا} [غافر: 36] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ.
وقال مجاهد {الصرح} هنا البركة.
قال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها.
وروي أن سليمان عليه السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرًا من زجاج أبيض وأجري من تحته الماء وألقي فيه من دواب البحر السمك وغيره.
وفي رواية أنهم بنوا له صرحًا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه وهذا أوفق بظاهر الآية ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانًا لها أيضًا على ما قيل، وقيل: ليزيدها استعظامًا لأمره وتحقيقًا لنبوته وثباتًا على الدين، وقيل لأن الجن قالوا له عليه السلام إنها شعراء السابقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك، وقال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] حيث أنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحًا في غاية اللطف والصافي كأنه ماء صاف وليس به، وهذا غاية الإنصاف منه عليه السلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.
{فَلَمَّا رَأَتْهُ} أي رأت صحته بناء على أن الصرح بمعنى القصر {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ظننته ماء كثيرًا {وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء، وقرأ ابن كثير برواية قنبل {سَاقَيْهَا} بهمز ألف ساق حملًا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فأنجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.
وفي البحر حكى أبو علي أن أباحية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد:
أحب المؤقدين إلى مؤسى

وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة.
وتعقب بأنه يأباه الاستقاق.
وأيًا ما كان فقول من قال: إن هذه القراءة لا تصح لا يصح {قَالَ} أي سليمان عليه السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب، وقيل: القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهر {أَنَّهُ} أي ما حسبته لجة {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} أي مملس ومنه الأمر للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئًا والمارد المتعرى من الخير {مّن قَوارِيرَ} من الزجاج وهو جمع قارورة.
{قَالَتْ} حين عاينت هذا الأمر العظيم {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} أي بما كنت عليه من عبادة الشمس، وقيل: بظني السوء بسليمان عليه السلام حيث ظنت أنه يريد اغراقها في اللجة وهو بعيد.
ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} تابعة له مقيدة به، وما في قوله تعالى: {للَّهِ رَبّ العالمين} من الالتفات إلى الاسم الجليل لاظهار معرفتها بالوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجًا لا أنانية فيه ولا كبر أصلًا كما لا يخفى.
واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليه السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له.
وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه عليه السلام أمهرها بعلبك، وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرًا كثيرًا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الأنس فقال: ما يذهب بهذا؟ فقالوا: يا رسول الله المواسي فقال: الماوسي تقطع ساقي المرأة، وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال: إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة، قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة، وعن عكرمة أن أول من وضع النورة شياطين الإنس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور، ويروى أن الحمام وضع يومئذ.
وفي تاريخ الخباري عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من صنعت له الحمامات سليمان» وأخرج الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضًا قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله تعالى» وروي عن وهب أنه قال: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلًا من قومك أزوجكه فقالت: أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك فقالت: زوجني إن كان لابد من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكًا يعمل له فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته با معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان عليه السلام.
وقال عون بن عبد الله: سأل رجل عبد الله بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال انتهى أمرها إلى قولها: {أَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين} قيل: يعني لا علم لنا وراء ذلك.
والمشهور أنه عليه السلام تزوجها وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار.
وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال: كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعًا مكتوب على طرف العمامة بالذهب:
بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا والله تعالى أعلم بصحة الخبر، وكم في هذه القصة من أخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها، والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة، ومما يستغرب والله تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية العبد وقد سخر الله تعالى له من الجن، والشياطين، والطير، والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهام السلام بمراتب، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال درة في السموات وفي الأرض، وهذا وللصوفية في تطبيق ما في هذه هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا}.
التنكير التغيير، يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته.
قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وقيل: غير بزيادة ونقصان.
قال الفراء، وغيره: إنما أمر بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئًا، فأراد أن يمتحنها، وقيل: خافت الجنّ أن يتزوّج بها سليمان، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدًا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار، وقوله: {نَنظُرْ} بالجزم على أنه جواب الأمر، وبالجزم قرأ الجمهور، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف {أَتَهْتَدِى} إلى معرفته، أو إلى الإيمان بالله {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} إلى ذلك.
{فَلَمَّا جَاءتْ} أي: بلقيس إلى سليمان {قِيلَ} لها، والقائل هو سليمان، أو غيره بأمره: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقل: هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقينًا لها فلا يتمّ الاختبار لعقلها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} قال مجاهد: جعلت تعرف، وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان، فقالت: كأنه هو.
وقال مقاتل: عرفته، ولكنه شبهت عليهم كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت: نعم.
وقال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن قلت: هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: كأنه هو، وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أن الجنّ مسخرون له {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قيل: هو من كلام بلقيس، أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمره.
وقيل: هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل: أوتينا العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة من قبلها أي من قبل مجيئها.
وقيل: هو من كلام قوم سليمان.
والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادّعته من الإسلام، ففاعل صدّ هو ما كانت تعبد أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده، وهي الشمس، قال النحاس: أي صدّها عبادتها من دون الله، وقيل: فاعل صدّ هو الله أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون {ما} في محل نصب، وقيل: الفاعل سليمان أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد، والأوّل أولى، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا، وجملة {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليل للجملة الأولى أي سبب تأخرها عن عبادة الله، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر.
قرأ الجمهور: {إنها} بالكسر.