فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}.
التفسير: لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان. والتنوين في {علمًا} إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علمًا غزيرًا. قال علماء المعاني: الواو في {وقالا} للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك: أعطيته فشكر. فالتقدي: ولقد آتيناهما علمًا فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه {وقالا الحمد لله} وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقًا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال: ولقد آتيناهما علمًا فعملاَ به قلبًا وقالبًا {وقالا} باللسان {الحمد لله} قلت: لقائل أن يقول: الأصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب والتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك أعطيته وشكر. وقوله: {على كثير من عباده} يجوز أن يكون واردا على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما. ويجوز أن يكون واردًا على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلى سائر الأزمنة وهذا أظهر، وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان. وفي الآية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلبًا وقالبًا وما التوفيق إلا منه. قوله: {وورث سليمان داود} عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة، وزيف بأن المال أيضًا عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنمًا ولا يرث إذا كان كافرًا أو قاتلًا. ومات المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته. والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معًا دليله قوله تشهيرًا لنعمة الله ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة {يا أيها الناس علمنا منطق الطير}.
والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيدًا وغير مفيد، ومنه قولهم نطقت الحمامة.
قال المفسرون: إنه تعالى جعل الطير في ايامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها. يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابه: إنه يقول: إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب. وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول: ليت الخق لم يخلقوا. وصاح طاوس فقال: يقول: كما تدين تدان. وأخبر أن الهدهد يقول: استغفروا الله يا مذنبون. والخطاف يقول: قدموا خيرًا تجدوه. والرخمة تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وارضه. والقمريّ يقول: سبحان ربي الأعلى. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس. ومعنى {من كل شيء} بعض كل شيء. وقال في الكشاف: أراد كثرة ما أوتي كما تقول فلان يقصده كل أحد تريد كثرة قاصديه. وإنما قال: {علمنا} {وأوتينا} لأنه أراد نفسه واباه، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب. وقوله: {إن هذا لهو الفضل المبين} قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي أقول هذا شكرًا لا فخرًا. يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ. خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطًا من ذهب وإبريسم فرسخًا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر، وإن كان يقول مع ذلك: لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. ومعنى {يوزعون} يحبسون. قيل: كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيلة منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم. ومعنى {أتوا على واد النمل} قطعوه وبلغوا آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي.
ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحلهم في الهواء فلذلك عدي ب {على} عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضرًا وهو غلام حدث فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرًا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال ابو حنيفة: كانت أنثى لقوله تعالى: {قالت نملة} لو كان ذكرًا لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلابد التمييز بالعلامة.
وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم أولي العقل فحكى أنها {قالت يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} أما جواب للأمر وإما نهي بدلًا من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة لا أرينك ههنا. وفي قوله: {سليمان وجنوده} دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول: أعجبني زيد وكرمه. وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز. وفي قوله: {وهم لا يشعرون} تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو. وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول المساكن. وفيه تنيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة. قيل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال {فتبسم ضاحكًا} أي شارعًا في الضحك آخذًا فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي. وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال إلى الدعاء قائلًا: {رب أوزعني} قال جار الله: حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكرًا لك. وإنما أدرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس. ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولاسيما النعم الدينية فقال: {وأن أعمل صالحًا ترضاه} ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود. يروى أن النملة أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرون حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة.
القصة الثالثة:
قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد.
يروى أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أيامًا يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة.
ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحًا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضًا أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض. وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنويه فلذلك تفقده. وقيل: إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خالٍ فدعا عفريت الطير- وهو النسر- فسأله عنه فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيد الطير- وهو العقاب- عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته. وقالت: إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: {أو ليأتيني بسلطان مبين} أي بعذر واضح. فلما قرب من سليمان ارخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعًا له، فلما دنا منه أخذ سليمان براسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته.
وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن اصغر رعيتهم. وأرجع إلى التفسير. قوله: {مالي لا أرى} استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساترًا ستره ثم لاح له أنه غائب فقال: {أم كان من الغائبين} وقد مر في الوقوف قوله: {لأعذبنه} لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله. فقيل: أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير. وقيل: كان يطلي بالقطران ويشمس. وقيل: هو أن يلقيه للنمل لتأكله. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقييل: أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل: أضيق السجون مجالسة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي. وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة: التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة. ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه. ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله: {فمكث غير بعيد} أي غير زمان بعيد {فقال} مخاطبًا لسليمان {أحطت بما لم تحط به} قالوا: فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. وفيه دليل على شرف العلم وأن صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالًا منه. والإحاطة بالشيء علمًا هو أن يعلمه من جميع جهاته. وقوله: {من سبأ بنبأ} من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول: {من سبأ بخبر} حسن على حسن.
وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت مدينة مارب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم. ثم شرع في النبأ وهو قوله: {إني وجدت امرأة} واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابرًا عن كابر إلى تبع الأول، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوسًا عبدة الشمس. والضمير في {تملكهم} يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة. {وأوتيت من كل شيء} اي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب. {ولها عرش عظيم} كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان. ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. يحكى من عظم شأنه إنما كان مكعبًا ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللًا بأنواع الجواهر وكذا قوائمه، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، قال بعض المعتزلة: في قوله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان. وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصًا في زمن سليمان عليه السلام.