فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}.
ترد هذه الإشارة إلى داود، وهذه القصة عن سليمان بعد تلك الحلقة من قصة موسى عليهم السلام وهم من أنبياء بني إسرائيل، في السورة التي تبدأ بالحديث عن القرآن؛ ويجيء فيها: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} وقصة سليمان عليه السلام في هذه السورة مبسوطة بتوسع أكثر منها في أية سورة أخرى. وإن كانت تختص بحلقة واحدة من حلقات حياته. حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ. يمهد لها السياق بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير وإعطائه من كل شيء. وشكره لله على فضله المبين. ثم مشهد موكبه من الجن والإنس والطير، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وإدراك سليمان لمقالة النملة وشكره لربه على فضله، وإدراكه أن النعمة ابتلاء، وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء.
ومناسبة ورود هذا القصص إجمالًا في هذه السورة ما سبق بيانه من افتتاح السورة بحديث عن القرآن، وتقرير أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقصص موسى وداود وسليمان من أهم الحلقات في تاريخ بني إسرائيل.
أما مناسبة هذه الحلقة ومقدماتها لموضوع هذه السورة فتبدو في عدة مواضع منها ومن السورة:
التركيز في جو السورة وظلالها على العلم كما أسلفنا في أوائلها والإشارة الأولى في قصة داود وسليمان هي:
{ولقد آتينا داود وسليمان علمًا} وإعلان سليمان لنعمة الله عليه يبدأ بالإشارة إلى تعليمه منطق الطير: {وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير}. وعذر الهدهد عن غيبته في ثنايا القصة يبدأ بقوله: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين}. والذي عنده {علم} من الكتاب هو الذي يأتي بعرش الملكة في غمضة عين.
وافتتاح السورة عن القرآن كتاب الله المبين إلى المشركين. وهم يتلقونه بالتكذيب. وفي القصة كتاب سليمان تتلقاه ملكة سبأ، فما تلبث طويلًا حتى تأتي هي وقومها مسلمين. لما رأته من القوى المسخرة لسليمان من الجن والإنس والطير. والله هو الذي سخر لسليمان ما سخر، وهو القاهر فوق عباده. وهو رب العرش العظيم.
وفي السورة استعراض لنعم الله على العباد، وآياته في الكون، واستخلافه للناس وهم يجحدون بآيات الله، ولا يشكرونه. وفي القصة نموذج للعبد الشاكر، الذي يسأل ربه أو يوفقه إلى شكر نعمته عليه؛ المتدبر لآيات الله الذي لا يغفل عنها، ولا تبطره النعمة، ولا تطغيه القوة، فالمناسبات كثيرة وواضحة بين موضوع السورة وإشارات القصة ومواقفها.
وقصة سليمان مع ملكة سبأ نموذج واف للقصة في القرآن، ولطريقة الأداء الفني كذلك.
فهي قصة حافلة بالحركة، وبالمشاعر، وبالمشاهد، وبتقطيع هذه المشاهد ووضع الفجوات الفنية بينها!
فلنأخذ في عرضها بالتفصيل:
{ولقد آتينا داود وسليمان علمًا وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين}.
هذه هي إشارة البدء في القصة. وإعلان الافتتاح. خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان عليهما السلام نعمة العلم. فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى. منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور، ترتيلًا يتجاوب به الكون من حوله، فتؤوب الجبال معه والطير، لحلاوة صوته، وحرارة نبراته، واستغراقه في مناجاة ربه، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود. ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب، وتطويع الحديد له، ليصوغ منه من هذا ما يشاء. ومنها تعليمه القضاء بين الناس، مما شاركه فيه سليمان.
وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه؛ بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله.
تبدأ القصة بتلك الإشارة: {ولقد آتينا داود وسليمان علمًا} وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين.
فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين.
ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار. وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه. فلا يكون العلم مبعدًا لصاحبه عن الله، ولا منسيًا له إياه. وهو بعض مننه وعطاياه.
والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد، زائغ عن مصدره، وعن هدفه. لا يثمر سعادة لصاحبه ولا للناس، إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار، لأنه انقطع عن مصدره، وانحرف عن وجهته، وضل طريقه إلى الله.
ولقد انتهت البشرية اليوم إلى مرحلة جيدة من مراحل العلم، بتحطيم الذرة واستخدامها. ولكن ماذا جنت البشرية حتى اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله، ولا يخشونه، ولا يحمدون له، ولا يتوجهون بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي هيروشيما وناجازاكي. وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب ويتهددهما بالتحطيم والدمار والفناء؟
وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان، وحمدهما الله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث:
{وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين}.
وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم. ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان. إنما يذكر العلم. لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال!.
{وورث سليمان داود} والمفهوم أنها وراثة العلم، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر. ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس: {قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء}. فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير. وليس هو داود. فهو لم يرث هذا عن أبيه. وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم.
{يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء}. يذيعها سليمان عليه السلام في الناس تحدثًا بنعمة الله، وإظهارًا لفضله، لا مباهاة ولا تنفجًا على الناس. ويعقب عليها {إن هذا لهو الفضل المبين} فضل الله الكاشف عن مصدره، الدال على صاحبه. فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله. وكذلك لا يؤتي أحدًا من كل شيء بهذا التعميم إلا الله.
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم هي لغاتها ومنطقها فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} ولا تكون أممًا حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات. ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين. فأما ما وهبه الله لسليمان عليه السلام فكان شأنًا خاصًا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر. لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحدس، كما هو حال العلماء اليوم.
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان عليه السلام في هذا الشأن بأنه نوع من إدارك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله، أن يعلم عبدًا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات، هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد. وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع!
على أن هذا كله لم يكن إلا شقًا واحدًا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان.
أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنوده من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكًا خاصًا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم. وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز.
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة كحلقة مفردة للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد. وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر، وإن هذا كما يبدو طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءًا من الناموس العام، الذي لا نعرف أطرافه. جزءًا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان.
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}.
فهذا هو موكب سليمان محشود محشور. يتألف من الجن والإنس والطير. والإنس معروفون، أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن. وهو أنه خلقهم من مارج من نار. أي من لهيب متموج من النار. وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية ولا ندري كيف وأن منهم طائفة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارًا: {قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا} ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام، ويغوصون له في البحر، ويأتمرون بأمره بإذن الله.
ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير.
ونقول: إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير كما سخر له طائفة من الإنس. وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندًا لسليمان إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات فكذلك لم يكن جيمع الجن ولا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.