فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهي تصف الكتاب بأنه {كريم}. وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله. أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملأ: {إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وأتوني مسلمين}. وهي كانت لا تعبد الله. ولكن صيت سليمان كان ذائعًا في هذه الرقعة، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم. مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته.
وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة. فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم. ومطلوب فيه أمر واحد: ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.
ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، برضاهم وموافقتهم:
{قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون}.
وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أُخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء. وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه {كريم} وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف. ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة!
وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل. ولكنهم فوضوا للملكة الرأي:
{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}.
وهنا تظهر شخصية المرأة من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة:
{قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون}!
فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية والقرية تطلق على المدينة الكبيرة أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها، وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها؛ وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة. وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه.
والهدية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.
ويسدل الستار على المشهد، ليرفع، فإذا مشهد رسل الملكة وهديتهم أمام سليمان. وإذا سليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال، أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام. ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير.
{فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون}.
وفي الرد استهزاء بالمال، واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله. مجال العقيدة والدعوة: {أتمدونن بمال} أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟ {فما آتاني الله خير مما آتاكم} لقد آتاني من المال خيرًا مما لديكم. ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق: العلم والنبوة. وتسخير الجن والطير، فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني {بل أنتم بهديتكم تفرحون}. وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض، الذين لا يتصلون بالله، ولا يتلقون هداياه!
ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد: {ارجع إليهم} بالهدية وانتظروا المصير المرهوب: {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها} جنود لم تسخر للبشر في أي مكان، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال: {ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} مدحورون مهزومون.
ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر، وانتهى الكلام في هذا الشأن.
ثم إذا سليمان عليه السلام يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية! ويرجح أنها ستجيب دعوته. أو يؤكد. وقد كان.
ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها، ولا ماذا قالوا لها، ولا ماذا اعتزمت بعدها. إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة، وأن سليمان يعرف هذا، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها، الذي خلفته في بلادها محروسًا مصونًا:
{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}.
ترى ما الذي قصد إليه سليمان عليه السلام من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته.
وقد عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه. وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى. فاستطول سليمان هذه الفترة واستبطأها فيما يبدو فإذا {الذي عنده علم من الكتاب} يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه، ولا يذكر اسمه، ولا الكتاب الذي عنده علم منه. إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سرًا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحيانًا على أيدي بعض المتصلين، ولم يكشف سره ولا تعليله، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات!
ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله: {عنده علم من الكتاب} فقال بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم: إنه كان يعرف اسم الله الأعظم. وقال بعضهم غير هذا وذاك. وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن. والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها، وكم فيه من قوى لا نستخدمها. وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها. فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره، حيث لا يملك من لم يرد أن يجريها على يديه أن يجريها.
وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه عليه السلام ونحن نرجح أنه غيره. فلو كان هو لأظهره السياق باسمه. ولما أخفاه. والقصة عنه، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر. وبعضهم قال: إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه.
{فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان عليه السلام وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز؛ واستشعر أن النعمة على هذا النحو ابتلاء ضخم مخيف؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة الشعور بفضل المنعم، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، فينال من الله زيادة النعمة، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء. ومن كفر فإن الله {غني} عن الشكر {كريم} يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء.
وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي سليمان عليه السلام في تهيئة المفاجآت للملكة القادمة عما قليل:
{قال نَكِّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}.
غيروا معالمه المميزة له، لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير. أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير.
ولعل هذا كان اختبارًا من سليمان لذكائها وتصرفها، في أثناء مفاجأتها بعرشها. ثم إذا مشهد الملكة ساعة الحضور:
{فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو}.
إنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال. فأين عرشها في مملكتها، وعليها أقفالها وحراسها، أين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟
ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير!
ترى تنفي أنه هو بناء على تلك الملابسات؟ أم تراها تقول: إنه هو بناء على ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب: {قالت كأنه هو} لا تنفي ولا تثبت، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة.
وهنا فجوة في السياق فكأنما أخبرت بسر المفاجأة.
فقالت: إنها استعدت للتسليم والإسلام من قبل.
أي منذ اعتزمت القدوم على سليمان بعد رد الهدية.
«وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ».
ثم يتدخل السياق القرآني لبيان ما كان قد منعها قبل ذلك من الإيمان باللّه وصدها عن الإسلام عند ما جاءها كتاب سليمان فقد نشأت في قوم كافرين، فصدها عن عبادة اللّه عبادتها من دونه من خلقه، وهي الشمس كما جاء في أول القصة:
«وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ».
وكان سليمان- عليه السّلام- قد أعد للملكة مفاجأة أخرى، لم يكشف السياق عنها بعد، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها- وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى.
قيلَ لَهَا: {ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة. فلما قيل لها: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها: قالَ: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ}! ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر. فرجعت إلى اللّه، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره. معلنة إسلامها {معَ سُلَيْمانَ} لا لسليمان ولكن {للَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
لقد اهتدى قلبها واستنار. فعرفت أن الإسلام للّه ليس استسلاما لأحد من خلقه، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات. إنما الإسلام إسلام للّه رب العالمين. ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة، {أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان باللّه، والإسلام له. فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين. بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في اللّه. لا غالب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في اللّه، رب العالمين، على قدم المساواة.
ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد اللّه، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء. فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام للّه يسوي بين الداعي والمدعوين. بين القائد والتابعين. فإنما يسلمون مع رسول اللّه للّه رب العالمين!. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلًا فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه ففقده. وقيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقي عليه التراب، ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟ فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر.