فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا}.
معطوف على قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودُ} واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} و{صالحا} عطف بيان، و{أَنِ اعبدوا الله} تفسير للرسالة، وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا الله، وإذا في {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} هي الفجائية أي ففاجئوا التفرق، والاختصام، والمراد ب {الفريقان} المؤمنون منهم والكافرون.
ومعنى الاختصام: أن كلّ فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحقّ معه، وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل: أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف.
{قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكرًا عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة.
والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازًا، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهًا، فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح، والكلام اللين أنهم {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير: التشاؤم أي تشاءمنا منك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفرًا أو أمرًا من الأمور نفروا طائرًا من وكره فإن طار يمنة ساروا، وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك قَال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله} أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدّره عليكم، والمعنى: أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعراف: 131].
ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تمتحنون، وتختبرون وقيل: تعذبون بذنوبكم، وقيل: يفتنكم غيركم، وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه.
{وَكَانَ فِي المدينة} التي فيها صالح، وهو الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط: اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كلّ واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله: {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافًا كثيرًا لا حاجة إلى التطويل بذكره.
{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله} أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله، هذا على أن {تقاسموا} فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلًا ماضيًا مفسرًا لقالوا، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقال: تقاسموا، أو يكون حالًا على إضمار قد أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود: {يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله} وليس فيها قالوا، واللام في {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} جواب القسم أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في {لنبيتنه}، وفي {لنقولن}، واختار هذه القراءة أبو حاتم.
وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صالح: رهطه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا قتلهم، ولا ندري من قتله، وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدلّ على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل: إن المهلك بمعنى الإهلاك، وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر، والمفضل بفتح الميم، وكسرها {وِإِنَّا لصادقون} فيما قلناه.
قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحًا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك، ولا رأوه، وكان هذا مكرًا منهم، ولهذا قال الله سبحانه: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا} أي بهذه المحالفة {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بمكر الله بهم.
{فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ} أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر، وما أصابهم بسببه {أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} قرأ الجمهور بكسر همزة أنا، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافًا.
قال الفراء، والزجاج: من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله.
كأنه جعله تابعًا للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير: بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلًا من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أنا دمرناهم، ويجوز أن تكون كان ناقصة، وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا.
قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ: {أن دمرناهم}.
والمعنى في الآية: أن الله دمّر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين: أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.
وجملة: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} مقرّرة لما قبلها.
قرأ الجمهور: {خاوية} بالنصب على الحال.
قال الزجاج: المعنى: فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء، والنحاس: أي خالية عن أهلها خرابًا ليس بها ساكن.
وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع.
والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف، واللام نصبت كقوله: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52].
وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع {خاوية} على أنه خبر اسم الإشارة، وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة، وخاوية خبر آخر، والباء في: {بِمَا ظَلَمُواْ} للسببية أي بسبب ظلمهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التدمير، والإهلاك {لآيَةً} عظيمة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يتصفون بالعلم بالأشياء.
{وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ} وهم صالح ومن آمن به {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله ويخافون عذابه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {طَائِرُكُمْ} قال: مصائبكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} قال: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحًا وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئًا، وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)}.
في معظم المواضع في القرآن ترد قصة صالح وثمود في سياق قصص عام من نوح وهود، ولوط وشعيب. وأحيانًا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء. أما في هذه السورة والتركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى وقصة داود وسليمان. واختصرت قصة هود وقصة شعيب من السلسلة ولم تجيء قصة إبراهيم.
وفي هذه السورة لا تذكر حلقة الناقة في قصة صالح عليه السلام إنما يذكر تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمرهم وقومهم أجمعين. وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون، وترك بيوت المفسدين خاوية وجعلها لمن بعدهم آية. والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون..
{ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون}.
يلخص رسالة صالح عليه السلام في حقيقة واحدة: {أن اعبدوا الله} فهذه هي القاعدة التي ترتكز عليها رسالة السماء إلى الأرض في كل جيل، ومع كل رسول. ومع أن كل ما حول البشر في هذا الكون، وكل ما يكمن فيهم أنفسهم، يهتف بهم إلى الإيمان بهذه الحقيقة الواحدة، فقد أمضت البشرية أجيالًا وأزمانًا لا يعلمها إلا الله، وهي تقف أمام هذه الحقيقة البسيطة وقفة الإنكار والجحود، أو وقفة الهزء والتكذيب. وما تزال إلى اليوم تروغ عن هذه الحقيقة الخالدة، وتجنح إلى شتى السبل، التي تتفرق بها عن سبيل الله الواحد المستقيم.
فأما قوم صالح ثمود فيحكي القرآن خلاصة موقفهم بعد دعوته إياهم، وجهده معهم بأنهم أصبحوا فريقين يختصمون. فريقًا يستجيب له، وفريقًا يخالف عنه. وكان الفريق المعارض هو الكثرة، كما نعرف من المواضع الأخرى في القرآن عن هذه القصة.
وهنا فجوة في السورة على طريقة القصص القرآني ندرك منها أن المكذبين المعرضين استعجلوا عذاب الله الذي أنذرهم به صالح، بدلًا من أن يطلبوا هدى الله ورحمته شأنهم في هذا شأن مشركي قريش مع الرسول الكريم فأنكر عليهم صالح أن يستعجلوا بالعذاب ولا يطلبوا الهداية، وحاول أن يوجههم إلى الاستغفار لعل الله يدركهم برحمته:
{قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون}!
ولقد كان يبلغ من فساد القلوب أن يقول المكذبون: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم}. بدلًا من أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إلى الإيمان به والتصديق!
وكذلك كان قوم صالح يقولون. ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار.
ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤمًا عليهم، ويتوقعون الشر من ورائهم: {قالوا اطيرنا بك وبمن معك}.
والتطير. التشاؤم. مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان. فقد كان الواحد منهم إذا همّ بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردًا. فإن مر سانحًا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر. وإن مر بارحًا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر! وما تدري الطير الغيب، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول. ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه. فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين.
وحتى هذه اللحظة ترى اللذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم بزعمهم قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين! هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه، نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد. إلى آخر هذه الخرافات الساذجة. ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة، وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات!
فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة، الضالة في تيه الوهم والخرافة، ردهم صالح إلى نور اليقين، وإلى حقيقته الواضحة، البعيدة عن الضباب والظلام:
{قال طائركم عند الله}.
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله. والله قد سن سننًا وأمر الناس بأمور، وبين لهم الطريق المستنير. فمن اتبع سنة الله، وسار على هداه، فهناك الخير، بدون حاجة إلى زجر الطير. ومن انحرف عن السنة، وحاد عن السواء، فهناك الشر، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير.