فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{بل أنتم قوم تفتنون}.
تفتنون بنعمة الله، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر. فاليقظة وتدبر السنن، وتتبع الحوادث والشعور بما رواءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية. لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء.
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور. وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم.
وتشعرهم أن يد اللّه وراء هذا كله، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة.
وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس. وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله، وبخالق الكون ومدبره، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم.
ولكن هذا المنطق المستقيم إنما تستجيب له القلوب التي لم تفسد، ولم تنحرف الانحراف الذي لا رجعة منه.
وكان من قوم صالح، من كبرائهم، تسعة نفر لم يبق في قلوبهم موضع للصلاح والإصلاح. فراحوا يأتمرون به، ويدبرون له ولأهله في الظلام.
{وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
هؤلاء الرهط التسعة الذين تمحضت قلوبهم وأعمالهم للفساد وللإفساد، لم يعد بها متسع للصلاح والإصلاح، فضاقت نفوسهم بدعوة صالح وحجته، وبيتوا فيما بينهم أمرا. ومن العجب أن يتداعوا إلى القسم باللّه مع هذا الشر المنكر الذي يبيتونه، وهو قتل صالح وأهله بياتا، وهو لا يدعوهم إلا لعبادة اللّه! وإنه لمن العجب كذلك أن يقولوا: {تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ولا حضرنا مقتله.. {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} فقد قتلوهم في الظلام فلم يشهدوا هلاكهم أي لم يروه بسبب الظلام! وهو احتيال سطحي وحيلة ساذجة. ولكنهم يطمئنون أنفسهم بها، ويبررون كذبهم، الذي اعتزموه للتخلص من أولياء دم صالح وأهله. نعم من العجب أن يحرص مثل هؤلاء على أن يكونوا صادقين! ولكن النفس الإنسانية مليئة بالانحرافات والالتواءات، وبخاصة حين لا تهتدي بنور الإيمان، الذي يرسم لها الطريق المستقيم.
كذلك دبروا. وكذلك مكروا، ولكن اللّه كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون: {وَمَكَرُوا مَكْرًا، وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
وأين مكر من مكر؟ وأين تدبير من تدبير؟ وأين قوة من قوة؟
وكم ذا يخطىء الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة، ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا}.
ومن لمحة إلى لمحة إذا التدمير والهلاك، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية. وقد كانوا منذ لحظة واحدة، في الآية السابقة من السورة، يدبرون ويمكرون، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون! وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودة في السياق. لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية. مباغتة القدرة التي لا تغلب للمخدوعين بقوتهم ومباغتة التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزين بمكرهم.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. والعلم هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث وبعد مشهد المباغتة يجيء ذكر نجاة المؤمنين الذين يخافون اللّه ويتقونه.
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
والذي يخاف اللّه يقيه سبحانه من المخاوف فلا يجمع عليه خوفين. كما جاء في حديث قدسي جليل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)}.
هذا مثل ثالث ضربه الله لحال المشركين مع المؤمنين وجعله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله.
والانتقال من ذكر ملك سليمان وقصّة ملكة سبأ إلى ذكر ثمود ورسولهم دون ذكر عاد لمناسبة جِوار البلاد، لأن ديار ثمود كانت على تخوم مملكة سليمان وكانت في طريق السائر من سَبأ إلى فلسطين.
ألا ترى أنه أعقب ذكر ثمود بذكر قوم لوط وهم أدنى إلى بلاد فلسطين، فكان سياق هذه القصص مناسبًا لسياق السائر من بلاد اليمن إلى فلسطين.
ولما كان ما حلّ بالقوم أهمَّ ذِكرًا في هذا المقام قدم المجرور على المفعول لأن المجرور هو محل العبرة، وأما المفعول فهو محلّ التسلية، والتسلية غرض تَبَعيّ.
ولام القسم لتأكيد الإرسال باعتبار ما اتصل به من بقية الخبر؛ فإما أن يكون التأكيد لمجرد الاهتمام، وإما أن يبنى على تنزيل المخاطبين منزلة من يتردد فيما تضمنه الخبر من تكذيب قومه إياه واستخفافهم بوعيد ربّهم على لسانه.
وحلول العذاب بهم لأجل ذلك لأن حالهم في عدم العظة بما جرى للمماثلين في حالهم جعلهم كمن ينكر ذلك.
و{أن أعبُدوا الله} تفسير لما دل عليه {أرسلنا} من معنى القول.
وفرع على {أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا} إلخ {إذا هم فريقان يختصمون}.
فالمعنى: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا لإنقاذهم من الشرك ففاجأ من حالهم أن أعرض فريق عن الإيمان وآمن فريق.
والإتيان بحرف المفاجأة كناية عن كون انقسامهم غير مرضي فكأنّه غير مترقب، ولذلك لم يقع التعرض لإنكار كون أكثرهم كافرين إشارة إلى أن مجرد بقاء الكفر فيهم كاف في قبْح فعلهم.
وحالهم هذا مساوٍ لحال قريش تجاه الرسالة المحمدية.
وأعيد ضمير {يختصمون} على المثنى وهو {فريقان} باعتبار اشتمال الفريقين على عدد كثير.
كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] ولم يقل: اقتتلتا.
والفريقان هما: فريق الذين استكبروا، وفريق الذين استضعفوا وفيهم صالح.
والفاء للتعقيب وهو تعقيب بحسب ما يقتضيه العرف بعد سماع الدعوة.
والاختصام واقع مع صالح ابتداء، ومع أتباعه تبعًا.
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)}.
لما كان الاختصام بين الفريقين في شأن صالح ابتداء جيء بجواب صالح عما تضمنه اختصامهم من محاولتهم إفحامه بطلب نزول العذاب.
فمقول صالح هذا ليس هو ابتداء دعوته فإنه تقدم قوله: {أن اعبُدوا الله} [النمل: 45] ولكنه جواب عمّا تضمنه اختصامهم معه، ولذلك جاءت جملة: {قال يا قوم} مفصولة جريًا على طريقة المحاورة لأنها حكاية جواب عما تضمنه اختصامهم.
واقتصر على مراجعة صالح قومَه في شأن غرورهم بظنهم أن تأخر العذاب أمارة على كذب الذي توعدهم به فإنهم قالوا: {فآتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين} [الأعراف: 70] كما حكي عنهم في سورة الأعراف لأن الغرض هنا موعظة قريش في قولهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] بحال ثمود المساوي لحالهم ليعلموا أن عاقبة ذلك مماثلة لعاقبة ثمود لتماثل الحالين قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب ولَيَأتِينّهم بغتة وهم لا يشعرون} [العنكبوت: 53].
والاستفهام في قوله: {لم تستعجلون} إنكار لأخذهم بجانب العذاب دون جانب الرحمة.
ف {السيئة} صفة لمحذوف، أي بالحالة السيئة، وكذلك {الحسنة}.
فيجوز أن يكون المراد ب {السيئة} الحالة السيئة في معاملتهم إياه بتكذيبهم إياه.
والمراد بالحسنة ضدّ ذلك، أي تصديقهم لما جاء به، فالاستعجال: المبادرة.
والباء للملابسة.
ومفعول {تستعجلون} محذوف تقديره: تستعجلونني متلبسين بسيئة التكذيب.
والمعنى: أنه أنكر عليهم أخذهم بطرف التكذيب إذ أعرضوا عن التدبر في دلائل صدقه، أي إن كنتم مترددين في أمري فافرضوا صدقي ثم انظروا.
وهذا استنزال بهم إلى النظر بدلًا عن الإعراض، ولذلك جمع في كلامه بين السيئة والحسنة.
ويجوز أن يكون المراد ب {السيئة} الحالةَ السيئة التي يترقبون حلولها، وهي ما سألوا من تعجيل العذاب المحكي عنهم في سورة الأعراف، وب {الحسنة} ضد ذلك أي حالة سلامتهم من حلول العذاب ف {السيئة} مفعول {تستعجلون} والباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ما في قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6].
والمعنى: إنكار جعلهم تأخيرَ العذاب أمارةً على كذب الوعيد به وأن الأولى بهم أن يجعلوا امتداد السلامة أمارة على إمهال الله إياهم فيتقوا حلول العذاب، أي لِمَ تبْقَون على التكذيب منتظرين حلول العذاب، وكان الأجدر بكم أن تبادروا بالتصديق منتظرين عدم حلول العذاب بالمرة.
وعلى كلا الوجهين فجواب صالح إياهم جار على الأسلوب الحكيم بجعل يقينهم بكذبه محمولًا على ترددهم بين صدقه وكذبه.
وقوله: {قبل الحسنة} حال من {السيئة}.
وهذا تنبيه لهم على خطئهم في ظنهم أنه لو كان صالح صادقًا فيما توعدهم به لعَجّل لهم به، فما تأخيره إلا لأنه ليس بوعيد حق، لأن العذاب أمر عظيم لا يجوز الدخول تحت احتماله في مجاري العقول.
فالقبلية في قوله: {قبل الحسنة} مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة.
وظاهر الاستفهام أنه استفهام عن علة استعجالهم، وإنما هو استفهام عن المعلول كناية عن انتفاء ما حقه أن يكون سببًا لاستعجال العذاب، فالإنكار متوجه للاستعجال لا لعلته.
ثم أُعقب الإنكار المقتضي طلب التخلية عن ذلك بتحريضهم على الإقلاع عن ذلك بالتوبة وطلب المغفرة لما مضى منهم ويرجون أن يرحمهم الله فلا يعذبهم، وإن كان ما صدر منهم موجبًا لاستمرار غضب الله عليهم، إلا أن الله برحمته جعل التائب من الذنب كمن لم يذنب.
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}.
هذا من محاورتهم مع صالح فلذلك لم يُعطف فعلا القول وجاء على سنن حكاية أقوال المحاورات كما بيّناه غير مرة.
وأصل {اطيرنا} تَطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجيهما وسكنت لتخفيف الإدغام وأدخلت همزة الوصل لابتداء الكلمة بساكن، والباء للسببية.
ومعنى التطير: التشاؤم.
أطلق عليه التطيّر لأن أكثره ينشأ من الاستدلال بحركات الطير من سَانح وبارح.
وكان التَطيّر من أوهام العرب وثمود من العرب، فقولهم المحكي في هذه الآية حُكي به مماثله من كلامهم ولا يريدون التطيّر الحاصل من زجر الطير لأنه يمنع من ذلك قولهم: {بك وبمن معك} وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وإن تصبهم سيئة يَطَّيَّروا بموسى ومن معه} في سورة الأعراف (131).
وتقدم معنى الشؤم هنالك.
وأجاب صالح كلامهم بأنه ومَن معه ليسُوا سبب شُؤم ولكن سبب شؤمهم وحلول المضار بهم هو قدرة الله.