فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أمورًا أربعة:
المنفعة الأولى: كونها قرارًا وذلك لوجوه: الأول: أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني: أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث: أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع: أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول، ولما حصلت المنافع الخامس: أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة، وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس: أنه سبحانه جعلها كفاتًا للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح.
المنفعة الثانية الأرض: قوله: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا} فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة: الأول: ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة، ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءًا الثاني: ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث: مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذًا تندفع إليه بأدنى حركة الرابع: مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.
المنفعة الثالثة للأرض: قوله: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} والمراد منها الجبال، فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها، أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به، فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض، فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءًا ماء، ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئًا من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل، ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري، وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة.
وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة: أحدها: أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها: أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرًا وباطنًا أكثر، والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل، فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر.
وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال.
المنفعة الرابعة للأرض: قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزًا} فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط، وأيضًا فلينتفع بذلك الحاجز، وأيضًا المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزًا لكي لا يفسد أحدهما بالآخر، وقال بعض الحكماء في قوله: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] قال عند عدم البغي {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر، فإن قيل ولم جعل البحر ملحًا؟ قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام، واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار، والأنهار تستمد في الأكثر من العيون، وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل، ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهًا مستمرًا فإن كثيرًا من العيون يغور، وكثيرًا ما تقحط السماء فلابد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار، وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب، ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية، ونبه بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ}.
فيها قولان:
أحدهما: أنها النخل، قاله الحسن.
الثاني: الحائط من الشجر والنخل، قاله الكلبي.
{ذَاتَ بَهْجَةٍ} فيها قولان:
أحدهما: ذات غضارة، قاله قتادة.
الثاني: ذات حسن، قاله الضحاك.
{مَّا كَانَ لَكُْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي ما كان في قدركم أن تخلقوا مثلها.
{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} فيه وجهان:
أحدهما: أي ليس مع الله إله، قاله قتادة.
الثاني: أإله مع الله يفعل هذا، قاله زيد بن أسلم.
{بَلْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أي يعدلون عن الحق.
الثاني: يشركون بالله فيجعلون له عدلًا أي مثلًا، قاله قطرب ومقاتل.
قوله: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} أي جعلها مستقرًا.
{وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا} أي في مسالكها ونواحيها أنهار جارية ينبت بها الزرع ويحيي به الخلق.
{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} يعني جبالًا هي لها ماسكة والأرض بها ثابتة.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزًا} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: بحر السماء والأرض، قاله مجاهد.
الثاني: بحر فارس والروم، قاله الحسن.
الثالث: بحر الشام والعراق، قاله السدي.
الرابع: العذب والمالح، قاله الضحاك.
والحاجز المانع من اختلاط أحدهما بالآخر فيه وجهان:
أحدهما: حاجزًا من الله لا يبغي أحدهما على صاحبه، قاله قتادة.
الثاني: حاجزًا من الأرض أن يختلط أحدهما بالآخر، حكاه قتادة.
{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يعقلون، قاله ابن عباس.
الثاني: لا يعلمون توحيد الله، حكاه النقاش.
الثالث: لا يتفكرون، حكاه ابن شجرة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
قرأ أبو السمال {قلَ} بفتح اللام وكذلك في آخر السورة وهذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش وهو بعد يعم كل مكلف من الناس جميعًا، وافتتح ذلك بالقول بحمده وتحميده وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوءة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجميعهم من بني آدم، وكان هذا صدر خطبة للتقرير المذكور. وقال ابن عباس العباد المسلم عليهم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واصطفاهم لنبيه.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الاختصاص توبيخ للمعاصرين من الكفار، وقال الفراء الأمر بالقول في هذه الآية هو للوط عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة من الفراء رحمه الله، ثم وقف قريشًا والعرب على جهة التوبيخ على موضع التباين بين الله عز وجل وبين الأوثان والأنصاب، وقرأ جمهور الناس {تشركون} بالتاء من فوق، وحكى المهدوي عن أبي عمرو وعاصم {يشركون} بالياء من تحت، وفي هذا التفضيل بلفظة {خير} أقوال، أحدها أن التفضيل وقع بحسب معتقد المشركين إذ كانت تعتقد أن في آلهتها خيرًا بوجه ما، وقالت فرقة في الكلام حذف مضاف في موضعين التقدير أتوحيد الله خير أم عبادة ما تشركون، ف {ما} في هذه الآية بمعنى الذي، وقالت فرقة {ما} مصدرية وحذف المضاف إنما هو أولًا تقديره أتوحيد الله خير أم شرككم، وقيل {خير} هنا ليست بأفعل إنما هي فعل كما تقول الصلاة خير دون قصد تفضيل.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم أن هذه الألفاظ التي تعم معاني كثيرة كخير وشر وأحب ونحو ذلك قد يقع التفضيل بها بين أشياء متباينة لأن المتباينات قدر بما اشترك فيها ولو بوجه ضعيف بعيد، وأيضًا فهذا تقرير والمجادل يقرر خصمه على قسمين أحدهما فاسد، ليرى وقوعه وقد استوعبنا هذا فيما مضى، وقالت فرقة تقدير هذه الآية الله ذو خير أما تشركون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا النوع من الحذف بعيد تأوله، وقرأ الحسن وقتادة وعاصم {يشركون} بالياء من تحت، وقرأ أهل المدينة ومكة والكوفة بالتاء من فوق وقوله تعالى. {أمن خلق} وما بعدها من النوقيفات، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به، وقرأ الجمهور {أمّن} بشد الميم وهي أم دخلت على من، وقرأ الأعمش {أمَن} بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون {أمن} استفهامًا فتكون في معنى أم من المتقدمة، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء وتقدير الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى، والحدائق مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق به، وقال قوم يقال ذلك كان جدارًا أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة الجمال والنضرة، وقرأ ابن أبي عبلة {ذوات بهَجة} بجمع ذات وفتح الهاء من {بهجة} ثم أخبر على جهة التوقيف أنه {ما كان} للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين من قوله: {أئن} {أَءِنك لأنت يوسف}.
قوله: {أَءِلَهٌ} قال أبو حاتم القراءة باجتماع الهمزتين محدثة. لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارىء عتيق، و{يعدلون} يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم، ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلًا ومثيلًا، و{خلالها} معناه بينها وأثناءها، والرواسي الجبال، رسا الشيء يرسو إذا ثبت وتأصل، والبحران الماء العذب بجملته والماء الأجاج بجملته، والحاجز ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها على رقتها في بعض المواضع ولطافتها التي لولا قدرة الله تعالى لغلب الملح العذب وكل ما مضى من القول في تأويل في قوله: {مرج البحرين} [الفرقان: 53] فهو مترتب هاهنا وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قُلِ الحمدُ لله}.
هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أُمِرَ أن يَحْمَد اللّهَ على هلاك الأمم الكافرة، وقيل: على جميع نِعَمه، {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} فيهم أربعة أقوال:
أحدها: الرسل، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وروى عنه عكرمة، قال: اصطفى إِبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالكلام، ومحمدًا بالرؤية.
والثاني: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وبه قال السدي.
والثالث: أنهم الذين وحَّدوه وآمنوا به، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: {آللّهُ خَيْرٌ أمَّا يُشْرِكونَ} قال أبو عبيدة: مجازه: أو ما يشركون، وهذا خطاب للمشركين؛ والمعنى: آلله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام: أنه لمَّا قصَّ عليهم قصص الأمم الخالية، أخبرهم أنَّه نجَّى عابديه، ولم تُغْنِ الأصنام عنهم.
قوله تعالى: {أمَّنْ خَلَقَ السموات} تقديره: أمَّا يشركون خير، أمَّن خلق السماوات {والأرضَ وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة}؟! فأمَّا الحدائق، فقال ابن قتيبة: هي البساتين، واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنه يُحْدَقُ عليها، أي: يُحْظَر، والبهجة: الحُسن.
قوله تعالى: {ما كان لكم أن تُنْبتُوا شجرها} أي: ما ينبغي لكم ذلك [لأنكم] لا تقدرون عليه.
ثم قال مستفهمًا مُنْكِرًا عليهم: {أإِله مع الله}؟! أي: ليس معه إِله {بل هم} يعني: كفار مكة {قوم يَعْدِلون} وقد شرحناه في فاتحة [الأنعام].
{أمَّنْ جَعَلَ الأرض قرارًا} أي: مُسْتَقَرًّا لا تَمِيد بأهلها {وجَعَلَ خلالها} أي: فيما بينها {أنهارًا وجعل لها رواسيَ} أي جبالًا ثوابتَ {وجعل بين البحرين حاجزًا} أي: مانعًا من قدرته بين العذْب والمِلْح ان يختلطا {بل أكثرهم لا يَعْلَمونَ} قَدْر عَظَمة الله. اهـ.