فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ}.
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف، الذي عرضت فيه السّورة مواقف المشركين والكافرين، من دعوة الحقّ التي يحملها إليهم رسل اللّه، ويقدّمون بين يديها الآيات المحسوسة التي تنطق بقدرة اللّه وعظمته، وتشهد لرسله بأنهم مؤيدون من عند اللّه، وأن ما على ألسنتهم هو من كلمات اللّه، وأن ما بأيديهم هو من آيات اللّه- مع هذا، فقد عميت من الضالين الأبصار، وزاغت القلوب، فكان العناد والتحدّى، ثم التطاول والتعدّى، وكان ذلك هو الجواب المحمّل بألوان التكذيب، والتهديد، الذي تلقاه الرسل من أقوامهم، إلا قليلا ممن شرح اللّه صدره للإيمان منهم، فنجا بنفسه، وكان من المفلحين في الدنيا والآخرة جميعا.
بعد هذا العرض، جاءت آيات اللّه، لتعقب على هذه الأحداث، ولتلفت الأنظار إلى اللّه وعظمته، وإلى ماله في عباده من آيات، ففى هذا التعقيب يرى المؤمنون والمشركون جميعا ما تحمل كلمات اللّه، من بيان، تتجلّى فيه نعم اللّه عليهم، ويبين منها فضله الذي أفاضه على هذا الوجود!.
وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} هو خطاب خاص للنبى، ثم هو عام إلى كل مؤمن باللّه، وفي هذا الخطاب دعوة إلى ذكر اللّه بالحمد على نعمه التي لا تحصى، والتي أجلّها وأعظمها، هو الإيمان الذي عمرت به قلوب المؤمنين.
وفي قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} ذكر يقترن مع ذكر اللّه، بالتسليم على عباد اللّه الذين اصطفاهم، واختصهم بالمزيد من فضله، وهم رسله الكرام، كما يقول سبحانه: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (180- 182 الصافات) وفي اقتران ذكر اللّه بالحمد والثناء عليه، بذكر المرسلين، والدعاء بالسّلام عليهم في هذا تكريم لرسل اللّه، واعتراف بفضلهم على الناس، إذ كانوا مصابيح هدى، ودعاة أمن وسلام للعباد، وهذا من شأنه أن يجعلهم موضع إعزاز، وحبّ، وإكرام، من أقوامهم خاصة، ومن الإنسانية كلها عامة، لا أن ترجمهم الأيدى الأئمة، وتسلقهم الألسنة الفاجرة، وتزدريهم العيون البلهاء، كما يفعل السفهاء، والحمقى، من أهل الشرك والضلال..!
وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ الجواب من كل لسان، على هذا السؤال.
وأصل الاستفهام أاللّه قلبت همزة الوصل في لفظ الجلالة ألفا، للتسهيل، فصارت مع همزة الاستفهام مدّة.
وأمّا أصلها أم حرف العطف الذي يقع بعد همزة التسوية، ما الموصولة، فأدغمت الميم في الميم، وجىء باسم الموصول ما بدل من للإشارة إلى ما يعبد المشركون من معبودات، لا تعقل، من الحيوان، والجماد، وغيرها، وذلك أكثر ما يشرك به المشركون.
قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}.
فى الجواب على الآية السابقة جوابان:
جواب لأهل البصائر وأصحاب العقول، وهو أن اللّه هو وحده المستحقّ للعبادة.
وجواب لأهل الشرك، الذين ران الضلال على قلوبهم، وهو أنهم يؤثرون آلهتهم التي يعبدونها، ولا يلتفتون إلى غيرها.
وقد جاءت هذه الآية: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} والآيات التي بعدها، لتلقى هؤلاء المشركين مع آلهتهم، ولتضع أمام أعينهم موازنة بينهم، وبين اللّه سبحانه وتعالى، لينظروا فيروا إن كان هناك من آلهتهم من يشارك اللّه في هذه الصفات التي للّه سبحانه وتعالى، فإن كان يقع لأيديهم أو لأبصاهم، أو لعقولهم شيء من هذا، فليمسكوا بآلهتهم، وإلّا فليروا رأيهم فيها، إن كان لهم- مع أهوائهم المتسلطة عليهم- رأى.
فقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً} هو معادل لمستفهم عنه محذوف، وهو الآلهة التي يمسك بها هؤلاء المشركون، والتقدير: أآلهتهم هذه، أم من خلق السموات والأرض وأنزل لهم من السماء ماء...؟.
وفي قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ} هو إلفات إلى ما أودع اللّه سبحانه وتعالى من أسرار في هذا الماء، الذي ينزله من السماء، فيحيى به الأرض بعد موتها، ويكسو عريها حللا زاهية رائعة، ذات ألوان وأصباغ، تبهج النفس، وتشرح الصّدر.
وفي العدول عن ضمير الغائب المفرد في {أنزل} إلى ضمير المتكلم المعظم ذاته في {فأنبتنا}- إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن إنزال المطر عملية، قد لا يشهدها كثير من الناس، وإذا شهدوها فإن كثيرا منهم قد لا يلتفتون إليها، أما هذه الزروع، وتلك الجنات التي تزين وجه الأرض، فإنه قل في الناس من لا يشهد هذه الظاهرة، ويملأ عينيه، ومشاعره منها، ومما فيها من حسن وروعة، فكان من المناسب هنا أن يرى الناس يد القدرة القادرة، وهي تنسج هذه الحلل الجميلة الرائعة التي تنكسو الأرض، وتجلوها كما تجلى العروس في ليل زفافها، ففى قوله تعالى: {أنبتنا} حضور للّه سبحانه، في هذه الزروع والجنات التي تزين وجه الأرض، وتقع لعينى كل إنسان.
وثانيهما: أن هذه الزروع وتلك الجنات، ليست على صورة واحدة، فهى مختلفة الألوان والأشكال، متعددة الأنواع والأجناس.
كما يقول اللّه سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْبًا وَفاكِهَةً وَأَبًّا} (24- 31 عبس) فهذه الصور التي لا تكاد تحصى من الزروع والأشجار، في مسرح العين، تبدو وكأن آلافا من الأيدى، عملت على إخراجها من الأرض، واستيلادها من بطنها، وصبغها بهذه الأصباغ، وإن الأمر لعلى خلاف هذا الظاهر، فهى يد واحدة قادرة، هي يد الحكيم العليم، التي تفردت بكل هذا، ومن هنا حسن أن يذكر اللّه سبحانه وتعالى بضمير الحضور، وبصيغة الجمع، حيث ترى قدرة اللّه قائمة على كل نبتة، وكل شجرة، وليس كذلك الشأن في المطر، ونزوله، إنه صورة واحدة في كل أحواله..!
وقوله تعالى: {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} الضمير في {شجرها} يعود إلى الحدائق.
والمعنى، أن هذه الحدائق ذات الروعة والبهجة، ليس في مقدور الناس جميعا أن ينبتوا شجرها، وأن يخرجوه من الأرض، فضلا عن أن يمسكوا عليه حياته، ويبلغوا به هذا المدى من النماء، والإزهار، والإثمار، وتنوع الألوان والأشكال.
وفي قوله تعالى: {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} سؤال تقريرى، يراد الجواب عليه، بعد النظر إلى هذه المعارض التي عرضتها الآية الكريمة لبعض قدرة اللّه، وآثار رحمته! وجواب أهل العناد والضلال، هو جواب كل معاند ضال، وهو العمى عن الحق، والتشبث بالباطل، ولهذا جاء قوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} مسجلا عليهم هذا الضلال، آخذا من أفواههم جوابهم على هذا السؤال.
وهو أنهم قوم يعدلون عن الحق إلى الباطل، ويولون وجوههم إلى معبوداتهم التي يعكفون عليها.
قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرارًا وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهارًا وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وهذه معادلة أخرى، يوازن فيها المشركون بين اللّه، وبين آلهتهم.
أيّ أحق بالألوهة، وأولى بالعبادة؟. أآلهتكم تلك الخرساء الصماء، أم اللّه الذي جعل الأرض قرارا؟ أي موضعا صالحا لحياة الإنسان، واستقراره عليها، {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهارًا} أي وأجرى بين شعاب الأرض أنهارا، تخلل أجزاءها، بحيث يأخذ كل جزء منها حظه من هذه الأنهار {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} أي جبالا راسية، تمسك بها أن تميد أو تضطرب {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزًا} أي فصل بين ماء البحار، وماء الأنهار، حيث يلتقيان، فلا يطغى أحدهما على الآخر، بل يبقى ماء الأنهار عذبا سائغا، ويظل ماء البحار ملحا أجاجا.
هذا هو صنع اللّه، وتلك آيات قدرته، وسوابغ رحمته، فأين ما للآلهة التي تعبدونها، أيها المشركون الضالون؟
{أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ}.. أجيبوا! وقد أجابوا جواب الأغبياء الجاهلين، الذين لا حظّ لهم من علم، فهم والحيوان على سواء، ولو أنهم كانوا على شيء من العلم، لأنار لهم علمهم الطريق إلى الحق، ولنطقوا بما ينبغى أن ينطق به أهل العلم، وهو أنه {لا إله إلا اللّه}.. ولكن أتى لهم هذا، وهم في هذا الجهل المظلم؟: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز النظم القرآنى، فقد تكررت كلمة {جعل} أربع مرات، تخللت عشر كلمات، دون أن يشعر أحد بهذا التكرار، أو يجد له أي أثر في النطق بهذه الكلمات، التي تناغم لحنها، وتوازن نظمها، فكانت لحنا علوى النغم، يأسر الآذان بوقعه، ويملك المشاعر، بسرّه وجهره..!
أقرأ الآية الكريمة ورتلها ترتيلا! {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرارًا وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهارًا وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
ثم ألا تسجد بعد هذا لهذا الإعجاز من كلام رب العالمين؟. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ}.
لما استوفى غرض الاعتبار والإنذار حقه بذكر عواقب بعض الأمم التي كذبت الرسل وهي أشبه أحوالًا بأحوال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه، وفي خلال ذلك وحَفَافيه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه أقبل الله بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه ماذا يقوله عقب القصص والمواعظ السالفة استخلاصًا واستنتاجًا منها، وشكر الله على المقصود منها.
فالكلام استئناف والمناسبة ما علمت.
أمر الرسول بالحمد على ما احتوت عليه القصص السابقة من نجاة الرسل من العذاب الحال بقومهم وعلى ما أعقبهم الله على صبرهم من النصر ورفعة الدرجات.
وعلى أن أهلك الأعداء الظالمين كقوله: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام: 45] ونظيره قوله في سورة العنكبوت (63) {قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} وقوله في آخر هذه السورة (93) {وقل الحمد لله سيريكم} الآية.
فأمر الرسول بحمد الله على ذلك باعتبار ما أفاده سوق تلك القصص من الإيماء إلى وعد الرسول بالنصر على أعدائه.
فقوله: {قل الحمد لله} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء حمد الله.
وقد تقدمت صيغة الحمد في أول الفاتحة.
وعطف على المأمور بأن يقوله من الحمد أمر بأن يتبعه بالسلام على الرسل الذين سبقوه قدرًا لقدر ما تجشموه في نشر الدين الحق.
وأصل {سلام} سلمت سلامًا، مقصود منه الإنشاء فحذف الفعل وأقيم مفعوله المطلق بدلًا عنه.
وعدل عن نصب المفعول المطلق إلى تصييره مبتدأ مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام كما تقدم عند قوله: {الحمد لله} في أول سورة الفاتحة.
والسلام في الأصل اسم يقوله القائل لمن يلاقيه بلفظ: سلام عليك، أو السلام عليك.
ومعناه سلامة وأمنٌ ثابت لك لا نكول فيه، لما تؤذن به {على} من الاستعلاء المجازي المراد به التمكن كما في {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وأصل المقصود منه هو التأمين عند اللقاء إذ قد تكون بين المتلاقين إحَن أو يكون من أحدهما إغراء بالآخر، فكان لفظ السلام عليك كالعهد بالأمان.