فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السواء} أي الضر.
وقال الكلبي: الجور.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض} أي سكانها يهلك قومًا وينشيء آخرين.
وفي كتاب النقاش: أي ويجعل أولادكم خلفًا منكم.
وقال الكلبي: خلفًا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم.
{أإله مَّعَ الله} على جهة التوبيخ؛ كأنه قال أمع الله ويلكم إله؛ ف {إله} مرفوع ب {مع}.
ويجوز أن يكون مرفوعًا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه.
والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن.
{قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب: {يَذَّكَّرُونَ} بالياء على الخبر، كقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} و{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر فيما قبلها وبعدها؛ واختاره أبو حاتم.
الباقون بالتاء خطابًا لقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأرض}.
قوله تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ} أي يرشدكم الطريق {فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار.
وقيل: وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات؛ لأنه ليس لها علم يهتدى به.
{وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل.
{أإله مَّعَ الله} يفعل ذلك ويعينه عليه {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} من دونه.
قوله تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} كانوا يقرّون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه.
{أإله مَّعَ الله} يخلق ويرزق ويبدىء ويعيد: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي حجتكم أن لي شريكًا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئًا من هذه الأشياء غير الله {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
قوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}.
وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يَطَّلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره.
وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة.
و{مَنْ} في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من {مَن} قاله الزجاج.
الفراء: وإنما رفع ما بعد {إلا} لأن ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد.
قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام.
قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدّق منجِّمًا؛ وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية.
قلت: وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى.
وقالت عائشة: من زعم أن محمدًا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} خرجه مسلم.
وروي أنه دخل على الحجاج منجِّم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدّهن، ثم قال: كم في يدي من حصاة؟ فحسب المنجم ثم قال: كذا؛ فأصاب.
ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ؛ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها؛ قال: لا.
قال: فإني لا أصيب.
قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حدّ الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و{لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} وقد مضى هذا في آل عمران والحمد لله.
قوله تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي.
وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: {بَلْ أَدْرَكَ} من الإدراك.
وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش: {بَلِ ادَّرَكَ} غير مهموز مشدّدًا.
وقرأ ابن محيصن: {بَلْ أَادَّرَكَ} على الاستفهام.
وقرأ ابن عباس: {بَلَى} بإثبات الياء {أَدَّارَكَ} بهمزة قطع والدال مشدّدة وألف بعدها؛ قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شُعبة يرفعه إلى ابن عباس.
وزعم هارون القارىء أن قراءة أبيّ {بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ}.
وحكى الثعلبي أنها في حرف أبىّ {أم تدارك}.
والعرب تضع بَلْ موضع أم وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهان؛ كقول الشاعر:
فوالله لا أدري أسلمى تقولت ** أم القول أم كل إلى حبيب

القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد؛ لأن أصل {ادارك} تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وُعِدوا به معاينة فتكامل علمهم به.
والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون.
القراءة الثانية فيها قولان: أحدهما: أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأوّل؛ قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذِّبين.
والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدلّ على صحة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} أي لم يدرك علمهم علم الآخرة.
وقيل: بل ضلّ وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم.
والقراءة الثالثة: {بَلِ ادَّرَكَ} فهي بمعنى {بَلِ ادَّارَكَ} وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صُحِّح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا.
القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول: أأنا قاتلتك؟ا فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أي لم يدرك.
قال الفرّاء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بَلَى لعمري قد أدركت السَّلَفَ فأنت تَروي ما لا أروي! وأنت تكذبه.
وقراءة سابعة: {بَلَ ادَّرَكَ} بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها.
وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في {قُمَ اللَّيْلَ} فإنه عدل إلى الفتح.
وكذلك وبعَ الثوبَ ونحوه.
وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرىء {بَلْ أَأَدَّرَكَ} بهمزتين {بَلْ آأَدَّرَكَ} بألف بينهما {بَلَى أَأَدَّرَكَ} {أَمْ تَدَارَكَ} {أَمْ أَدَّرَكَ} فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة {بَلْ أَأَدَّرَكَ} على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: {أَمْ أَدَّرَكَ} و{أَمْ تَدَارَكَ} لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ: {بَلَى أَأَدَّرَكَ} على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن.
{فِي الآخِرَةِ} في شأن الآخرة ومعناها.
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي في الدنيا.
{بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أي بقلوبهم واحدهم عمو.
وقيل: عَمٍ؛ وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ}.
والمضطر: اسم مفعول، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه.
قال ابن عباس: هو المجهود.
وقال السدّي: هو الذي لا حول ولا قوة له.
وقيل: هو المذنب إذا استغفر، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به.
وقال الزمخشري: الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطًا فيه المصلحة. انتهى. وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.
{ويكشف} هو كل ما يسوء، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر، وهو خاص إليّ أعم، وهو ما يسوء، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها.
وخلفاء: أي الأمم السالفة، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، أو خلفاء الكفار في أرضهم، أو الملك والتسلط، أقوال.
وقرأ الحسن في رواية: ونجعلكم بنون المتكلم، كأنه استئناف إخبار ووعد، كما قال تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض}.
وقوله: {ويجعلكم خلفاء الأرض} انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان.
وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكًا متسلطًا.
وقرأ الجمهور: تذكرون، بتاء الخطاب؛ والحسن، والأعمش، وأبو عمرو: بياء الغيبة، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها.
وقرأ أبو حيوة: تتذكرون، بتاءين.
وظلمة البر هي ظلمة الليل، وهي الحقيقة، وتنطلق مجازًا على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال: أظلم عليّ الأمر.
وقال الشاعر:
تجلت عمايات الرجال عن الصبا

أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات، وهداية البحر بالنجوم.
{ومن يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته} تقدم تفسير نظير هذه الجملة.
وقرىء: عما تشركون، بتاء الخطاب.
{أمن يبدأ الخلق} الظاهر أن الخلق هو المخلوق، وبدؤه: اختراعه وإنشاؤه.
ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك، لا عموم المخلوق.
قال ابن عطية: والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول: فلان يبدىء ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت: قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.
ولما كان إيجاد بني آدم إنعامًا إليهم وإحسانًا، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال: {ومن يرزقكم من السماء} بالمطر، {والأرض} بالنبات؟ {قل هاتوا برهانكم} أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره {إن كنتم صادقين} في أن مع الله إلهًا آخر.
فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله: {بل هم قوم يعدلون}، أي عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع.
ولما ذكر جعل الأرض مستقرًا، وتفجير الأنهار، وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيهًا على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله: {بل أكثرهم لا يعلمون}، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك.