فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر إجابة دعاء المضطر، وكشف السوء، واستخلافهم في الأرض، ناسب أن يستحضر الإنسان دائمًا هذه المنة، فختم بقوله: {قليلًا ما تذكرون}، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه، كما قال: {نسي ما كان يدعوا إليه من قبل} ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح نشرًا، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها الله، قال تعالى: {عما يشركون}.
واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: {أإله مع الله}، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.
قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وألحوا عليه، فنزل: {قل لا يعلم من في السموات والأرض}، الآية.
والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعًا على لغة تميم، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب.
وعن عائشة، رضي الله عنها: من زعم أن محمدًا يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله}، ولا يقال: إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفًا حقيقيًا للمخلوقين فيهما، ومجازيًا بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعًا بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح.
ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلًا، وارتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء، لأنه استثناء من نفي متقدم، والظاهر عموم الغيب.
وقيل: المراد غيب الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ يعني في كونه استثناء منقطعًا، إذ ليس مندرجًا تحت من، ولم أختر الرفع على لغة تميم، ولم نختر النصب على لغة الحجاز، قال: قلت: دعت إلى ذلك نكتة سرية، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليئول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم.
كما أن معنى: ما في البيت إن كانت اليعافير أنيسًا، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس. انتهى.
وكان الزمخشري قد قدم قوله: فإن قلت: لم أرفع اسم الله، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كان أحدًا لم يذكر، ومنه قوله:
عشية ما تغني الرماح مكانها ** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. انتهى.
وملخصه أنه يقول: لو نصب لكان مندرجًا تحت المستثنى منه، وإذا رفع كان بدلًا، والمبدل منه في نية الطرح، فصار العامل كأنه مفرغ له، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه قيل: قل لا يعلم الغيب إلا الله.
ولو أعرب من مفعولًا، والغيب يدل منه، وإلا الله هو الفاعل، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهم لا يعلمون بحدوثها، أي لا يسبق علمهم بذلك، لكان وجهًا حسنًا، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم.
وأيان: تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به.
وقرأ السلمي: إيان، بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم.
ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص، وهو وقت الساعة والبعث، فصار منتفيًا مرتين، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه.
وقرأ الجمهور: {بل ادّارك}، أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل.
وقرأ أبي: أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل.
وقرأ سليمان بن يسار أخوه: بل ادّرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالًا، فصار قلب الثاني للأول لقولهم: اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل.
وقرأ أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري: كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة: بل أدرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم.
وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن: بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفًا تخفيفًا، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها.
وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: لم يكن كقوله تعالى: {أشهدوا خلقهم} أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معًا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. انتهى.
وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل: أخبزًا الكت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني.
وقرأ مجاهد: أم أدرك، جعل أم بدل بل، وأدرك على وزن أفعل.
وقرأ ابن عباس أيضًا: بل إدّارك، بهمزة داخلة على ادارك، فيسقط همزة الوصل المجتلبة، لأجل الإدغام والنطق بالساكن.
وقرأ ابن مسعود أيضًا: بل أأدرك، بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل.
وقرأ الحسن أيضًا، والأعرج: بل أدرك، بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل، بعد صيرورة التاء دالًا.
وقرأ ورش في رواية: بل ادّرك، بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام.
وقرأ ابن عباس أيضًا: بلى ادرك، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي.
وقرىء: بل آأدرك، بألف بين الهمزتين.
فأما قراءة من قرأ بالاستفهام، فقال ابن عباس: هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم.
وقال الزمخشري: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ: أم ادّرك، وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. انتهى.
قال ابن عطية: هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم.
وأما قراءة من قرأ على الخبر، فقال ابن عباس: المعنى: بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا، أي علموه في الآخرة، بمعنى: تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عيانًا في الآخرة ما وعدوا به غيبًا في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع.
قال ابن عطية: يحتمل معنيين: أحدهما: أنه تناهي علمهم، كما تقول: أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقدارًا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتًا، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدّى العلم بالباء، كما تقول: علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام، وجاء إنكارًا لأنهم لم يدركوا شيئًا نافعًا.
والثاني: أن أدرك: بمعنى يدرك، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا.
وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى. وفيه بعض تلخيص وزيادة.
وقال الزمخشري: هو على وجهين: أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله: {بل هم في شك منها بل هم منه عمون}، يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم.
والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلًا عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته.
وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم.
وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. انتهى.
وقال الكرماني: العلم هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة، وكثرة منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم.
وقال الفراء: بل ادرك، فيصير بمعنى الجحد، ولذلك نظائر؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها، ودل على ذلك {بل هم في شك منها}، فصارت في في الكلام بمعنى الباء، أي لم يدرك علمهم بالآخرة.
قال الفراء: ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ: أدرك، بالاستفهام. انتهى.
وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم: إن كان بلى جوابًا لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قومًا أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم: بلى إيجابًا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: {بل هم في شك منها}، بمعنى: أم هم في شك منها، لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: {بل هم منها عمون}. انتهى.
يعني أن المعنى: ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم، عودل بها الهمزة، وهذا ضعيف جدًا، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام.
قال الزمخشري: فإن قلت: فمن قرأ بلى ادرك؟ قلت: لما جاء ببلى بعد قوله: {وما يشعرون}، كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: ادرك علمهم في الآخرة، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون، كونها، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون.
وأما من قرأ: بلى أدّرك، على الاستفهام فمعناه: يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن.
فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولًا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عداه بمن دون عن، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون. انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ}.
وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عزَّ وجلَّ، اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السُّدِّيِّ رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ، وقيل: المذنبُ إذا استغفرَ. واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ. {وَيَكْشِفُ السوء} وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملكُ والتَّسلطُ. {أءلاه مَّعَ الله} الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تتذكرونَ، وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى. وفي تذيبلِ الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بحيثُ لا يتوقفُ إلا على التوجِه إليه وتذكره. وقُرىء تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون يذّكرونَ بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ.