فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمقابلة ونحو ذلك، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشيء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويًا مثلًا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارًا معينًا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبًا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علمًا حقيقيًا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى.
وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلًا أو بعضًا مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلًا، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب، ويلتزم أن القاعدة أغلبية.
وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل؛ فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه؛ والله تعالى أعلم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لابد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم فأيان اسم استفهام عن الزمان، ولذا قيل: إن أصلها أيّ آن أي أيّ زمان، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة ليبعثون، والجملة في موضع النصب بيشعرون وعلقت {يَشْعُرُونَ} لمكان الاستفهام، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عامًا لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعًا، وقيل: الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم، وفيه بحث.
وقرأ السلمي {إيان} بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم.
{بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ في الآخرة} إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل {ادرك} تدارك فأدغمت التاء في الدار فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقًا، {وَفِي الآخرة} متعلق بعلمهم والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذٍ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفنى ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعًا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئًا فشيئًا، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ في شَكّ مّنْهَا} إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلًا فضلًا عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميًا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد {عَمُونَ} عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولًا أوليًا، و{مِنْهَا} متعلق بعمون قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة بمدأ عما هم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفًا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.
وجوز أن يكون {ادرك} بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحاكم علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولًا.
وجوز أيضًا أن يكون المراد بالادّراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.
وقال الكرماني: التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول؛ والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.
وقيل: إن في الآخرة متعلق بادّارك وإليه ذهب الزجاج والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانًا، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.
وقيل: التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاءًا فتدبر.
وقرأ أبيّ {أم تدارك} على الأصل وجعل أم بدل {بَلِ}، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناءًا على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالًا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم: أثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام {بَلِ}، وروي ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة بل أدرك على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن بل آدّرك بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفًا تخفيفًا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد {بَلِ} لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19] أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معًا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. اهـ.
وقد أجاز بعض المتأخرين كما قال أبو حيان الاستفهام بعد {بَلِ} وشبهه بقول القائل: أخبزًا أكلت، بل أماءًا شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد أم أدرك جعل أم بدل {بَلِ} وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضًا {بَلِ ادرك} بهمزة داخلة على {ادرك} فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضًا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضًا والأعرج {بل أدرك} بهمزة، وإدغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالًا، وقرأ ورش في رواية بل ادّرك بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضًا بلى أدرك بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ بل آأدّارك بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراآت فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم: إن كان بلى جوابًا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قومًا أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم: بلى إيجابًا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: {بَلْ هُمْ في شَكّ مّنْهَا} بمعنى أم هم في شكل منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} اه، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدًا، وقال بعض المحققين: ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: {بْل هُمْ في شَكّ} الخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل أنهم منها عمون فهو على منوال:
تحية بينهم ضرب وجيع

أورد إنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ}.
ومعادلة ثالثة، بين ما للّه، وبين ما يكون لهذه المعبودات من دون اللّه.
أفهذه الآلهة، التي لا تملك ضرّا ولا نفعا، أم الإله الواحد، القادر، السميع، البصير، الذي تفزعون إليه- أيها الضالون المكذبون- عند كل كرب، وتدعونه عند كل شدّة، فيستجيب لكم، ويكشف الضرّ عنكم.؟
كما يقول سبحانه: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (63- 64: الأنعام) أآلهتكم هذه؟ أم اللّه ربّ العالمين، الذي أعطاكم هذه الصورة البشرية السويّة، ومنحكم العقل، والمنطق، وأقامكم على هذه الأرض خلفاء للّه فيها؟
ألا تذكرون فضل اللّه عليكم، ولا تنظرون إلى نعمه إليكم؟ ألا تشكرون له أن أخرجكم من العدم إلى الوجود، ثم أعطاكم من الوجود الأرضى أحسن وأكرم ما خلق فيه؟
أجيبوا، أيها الضالون المكذّبون، الجاحدون؟
وقد أجابوا بما يجيب به كل جاحد لنعمة اللّه، لا يذكر اللّه إلا عند الشدّة، فإذا انجلى الكرب، وذهبت الشدّة {نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} (8: الزمر).
ولهذا جاءت فاصلة الآية: {قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} لتسجل عليهم هذا التنكر لنعمة اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، فهم لا يذكرون للّه هذه النعمة، ولا يتذكرون هذا الإحسان.
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ومعادلة أو موازنة رابعة.
أآلهتكم هذه الجاثمة الجامدة، أم اللّه الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر، بما أقام لكم من معالم في السماء والأرض، تتعرفون بها وجهتكم، في تنقلكم على ظهر الأرض أو البحر؟ أآلهتكم هذه المستخزية العاجزة، أم الإله الذي يرسل الرياح فتثير السحاب، وتدفعه إلى حيث ينزل ماء من السماء، فيحيى الأرض ومن عليها؟
ماذا تقولون؟
أجيبوا، أيها اللّاهون الغافلون! ويجيبون بهذا الصمت الغبي، ويجيب الوجود كله من حولهم، بهذا الجواب، الناطق بوحدانية اللّه، المنزه للّه عن الشريك، والصاحبة والولد.
{تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.