فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه معادلة أو موازنة خامسة.
أآلهتكم هذه العجماء، الصماء، أم اللّه الذي يبدأ الخلق، وينشئه ابتداء على غير مثال، ثم يعيده خلقا آخر كما بدأه، بعد أن يبلى، وتذهب معالمه؟
ماذا تقولون؟
أتقولون بعد هذا، إن مع اللّه إلها، يصنع ما يصنع اللّه، ويتصرف معه في هذا الوجود، أو يشاطره بعضا منه؟
{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع اللّه إلها أو آلهة أخرى؟ إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه- هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} (117: المؤمنون).
وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات اللّه في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية اللّه، إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة اللّه، حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى اللّه الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها، وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق! لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك- كما يقولون- أول مراتب اليقين.
الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) الآيات: 65- 78].
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}.
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
هو تعقيب على هذه المعارض، التي عرضت فيها الآيات السابقة للمشركين وغباءهم وضلالهم، وآلهتهم وما هي عليه من عجز وضعف، أمام جلال اللّه وعظمته وقدرته.
وفي هذه الآية عرض للمخلوقات جميعا، أمام علم الخالق، المحيط بكل شيء، وأن من في السموات والأرض من مخلوقات لا تعلم مما استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمه شيئا، فأهل الأرض مهما علموا من علم فإن علمهم بهذا الكوكب الذي يعيشون فيه، لا يعدو أن يكون قطرة من محيط الأسرار المودعة في هذا الكوكب، فكيف علمهم بما في هذا الوجود الذي هم قطرة في محيطه الذي لا حدود له؟ وكذلك مخلوقات العوالم الأخرى، علمها كعلم أهل الأرض، هو محدود محصور في دائرة وجودها.
وقوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ} إلا هنا ملغاة، والمعنى أنه لا يعلم الغيب إلا اللّه وحده، أما من في السموات والأرض فمنفى عنهم هذا العلم، وإن علموا شيئا فهو بالاضافة إلى علم اللّه، وإلى ما جهلوه من هذا العلم- لا وزن له، ولا اعتداد به.
وقوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} تأكيد لنفى علم الغيب عن أهل السموات والأرض، وذلك أن الناس وهم أكثر خلق اللّه ادعاء للعلم، لا يعلمون متى يبعثون من قبورهم إذا ماتوا، وهذا البعث هو أمر يتصل بهم، ويعنى كلّ واحد منهم. فإذا جهلوا ما هو من شأنهم فهم لغيره أجهل، وإذا جهل الناس فغيرهم من المخلوقات أشد جهلا.
ويجوز أن يكون المراد هنا هم الناس وحدهم، ويكون نفى العلم عنهم بميقات بعثهم حجة قائمة على أنهم لا يعلمون الغيب، فليؤمنوا إذن بعالم الغيب والشهادة إيمانهم بكل غيب، وليدعوا هذه الآلهة التي يجسدونها، ويتعاملون معها، كما يتعاملون مع أموالهم وأمتعتهم.
فاللّه سبحانه وتعالى، وإن لم يروه، فإن كثيرا من الحقائق التي بين أيديهم لم يروها، ولم يقع في علمهم شيء منها.
إن الإنسان ليستبين كثيرا من الأمور التي لا تقع لحواسة، بما يلوح للعقل من شواهد عليها، فلم لا يؤمن المشركون باللّه، وهذا الوجود كله شاهد للّه؟
قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}.
هذا تعقيب على قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وذلك أن البعث وإن لم يعلم يومه فإنه آت لا ريب فيه، وعدم العلم بيومه، لا يستدعى إنكاره وجحوده، ولكن ذلك هو الذي فتن كثيرا من الناس، وأضلهم، فكفروا بهذا اليوم، إذ لم يعلموه علما واقعا محققا، وهذا غيب من الغيوب التي استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمها، فالذين ينكرون يوم البعث، إنما ينكرون أمرا قامت عليه الأدلة، وتظاهرت له البراهين، وإن كان لا يشعر بها الغافلون الضالون، ولهذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} منبها إلى هذه الغفلة التي عليها هؤلاء المشركون المنكرون ليوم البعث، إنهم لا يشعرون به، مع أن كثيرا من الإشارات الدالة عليه تمر بهم، ولكنهم في غمرة ساهون!- وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إضراب على الصفة التي وصفوا بها من قبل، وهي عدم شعورهم بالبعث، وإلقاء صفة أخرى عليهم فوق هذه الصفة، وهي أن ما لديهم من علم في شأن الساعة، كثير، والشواهد عليه بين أيديهم لا تحصى، ولكن هذا العلم، وتلك الشواهد لم تحقق لهم علما بها، وهذا هو بعض السر- واللّه أعلم- في تعدية المصدر {علمهم} بحرف الجر فى، بدلا من الباء، في النظم القرآنى {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ}.
{فِي الْآخِرَةِ} ولم يجىء هكذا: بل إدراك علمهم بالآخرة، فالعلم الذي عندهم بالاخرة كثير، ولكنهم يمارون في هذا العلم، ويجادلون فيه.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها} هو وصف آخر يضاف إلى أوصافهم التي تكشف عن موقفهم من أمر الآخرة.. {إنهم في شك منها} لا يقيم لهم العلم الذي بين أيديهم عنها، إلا أوهاما وظنونا.
ومعنى ادّارك علمهم، أي كثر، وتتابع، وجاءهم داركا، أي متلاحقا.
تختلف وجوهه في تصورهم، وتتغاير صوره في عقولهم، وتتوارد عليهم الخواطر فيه بين الشك واليقين.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} وصف ثالث يلحق بالوصفين السابقين، وهو أنهم في عمى وضلال عن الآخرة، فلا يرون لها وجودا، ولا يحسون لها أثرا.
والصورة التي تتمثل من هؤلاء المنكرين ليوم البعث، هي صورة مائجة مضطربة، كما يموج السراب في الصحراء.
فهناك شواهد قائمة على البعث والحساب والجزاء، ولكن المشركين لا يشعرون بها، ولا يلتفتون إليها.
وهناك علم كثير، تحدثهم به آيات اللّه التي يتلوها عليهم رسول اللّه، في أمر البعث والحساب والجزاء.. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وهذا العلم لا يستقبله المشركون إلا بقلوب مريضة، وعقول ضالة، فلا تقع منه إلا على ظنون.. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها}.
وهذه الظنون التي تقع لهم من هذا العلم، سرعان ما يطغى عليها الضلال والجهل، فتختفى، ويختفى معها كل شيء عن هذا اليوم، وإذا هم في عمى، فلا يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، في أنفسهم.. {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}.
وفي تعدية المصدر عم، بمعنى أعمى- بحرف الجر من بدلا من عن الذي هو للفعل، إذ يقال: عمى عن الشيء: ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته، وهذا- واللّه أعلم- ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين.
وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان باللّه هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان، وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان باللّه، لأن الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون، وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب، وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء، فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شئون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير، وحال انتياب السوء، وحال التصرف في الأرض ومنافعها.
فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر.
وهي: حالة الاحتياج، وحالة البؤس، وحالة الانتفاع.
فالأولى: هي المضمنة في قوله: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها.
والاضطرار: افتعال من الضرورة لا من الضر.
وتقديره: أنه نالته الضرورة فطاوعها.
وليس له فعل مجرد وإنما يقال: اضطره كذا إلى كذا.
واللام في {المضطر} لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني، أي يجيب فردًا معهودًا في الذهن بحالة الاضطرار.
والإجابة: إعطاء الأمر المسئول.
والمعنى: أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضًا ويؤخر بعضًا.
وحالة البؤس: هي المشار إليها بقوله: {ويكشف السوء} والكشف: أصله رفع الغشاء، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس.
وَرُمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء.
وهو أيضًا مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء.
والمعنى: من يزيل السوء.
وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض.
والمعنى: إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضًا فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه.
وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة.
والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى، والله أعلم بذلك.
وحالة الانتفاع: هي المشار إليها بقوله: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير: مالكين لها، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها.
وأفاد خلفاء بطريق الإلتزام معنى الوراثة لمن سبق، فكل حي هو خلف عن سلفه.
والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلًا بعد جيل.
وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61].
وهذه مرتبة التحسيني.
وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعًا أو يدفع ضررًا وهو من مسالك العلة في أصول الفقه.
ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها.