فصل: قال القاسمي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبحران هما: العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مرّ بيانه في سورة الفرقان {أإله مَعَ الله} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه، ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به ما لا يضرّ ولا ينفع {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم، وسلطان قدرته.
{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة.
وقيل: هو المذنب، وقيل: هو الذي عراه ضرّ من فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرّع إلى الله.
واللام في {المضطر} لجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلاّ فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطرّ إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطرّ أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22]، وقال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم، وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم {وَيَكْشِفُ السوء} أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل: هو الضرّ، وقيل: هو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى: يهلك قرنًا وينشيء آخرين، وقيل: يجعل أولادكم خلفًا منكم، وقيل: يجعل المسلمين خلفًا من الكفار ينزلون أرضهم، وديارهم {أإله مَعَ الله} الذي يوليكم هذه النعم الجسام {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرا قليلًا ما تذكرون.
قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب.
وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردًّا على قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} واختار هذه القراءة أبو حاتم.
{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر} أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البرّ أو البحر.
وقيل: المراد: مفاوز البرّ التي لا أعلام لها، ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} والمراد بالرحمة هنا المطر أي: يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله {أإله مَعَ الله} يفعل ذلك، ويوجده {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه، وتقدّس عن وجود ما يجعلونه شريكًا له {أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} كانوا يقرّون بأن لله سبحانه هو الخالق، فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الإبتداء قدر على الإعادة {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} بالمطر والنبات أي هو خير أم ما تجعلونه شريكًا له مما لا يقدر على شيء من ذلك {أإله مَعَ الله} حتى تجعلونه شريكًا له {قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين} أي حجتكم على أن الله سبحانه شريكًا، أو هاتوا حجتكم أن ثمّ صانعًا يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم، وتهكم بهم {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إِلاَّ الله منقطع، أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلاّ مع كون الاستثناء منقطعًا هو على اللغة التميمية كما في قولهم:
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس وقيل: إن فاعل {يعلم} هو ما بعد إلاّ، و{من في السماوات} مفعوله، و{الغيب} بدل من {من} أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلاّ الله، وقيل: هو استثناء متصل من {من}.
وقال الزجاج: {إلاّ الله} بدل من {من}.
قال الفراء: وإنما رفع ما بعد إلاّ لأن ما بعدها خبر كقولهم: ما ذهب أحد إلاّ أبوك، وهو كقول الزجاج.
قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي، وإن.
وقد تقدّم تحقيقه، والضمير للكفرة.
وقرأ السلمي: {إيان} بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم، وهي منصوبة ب {يبعثون} ومعلقة ل {يشعرون} فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض، أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أَيَّانَ معنى متى.
{بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}.
قرأ الجمهور: {ادّارك}.
وأصل ادارّك: تدارك، أدغمت التاء في الدال، وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن.
وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمر وحميد: {بل أدرك} من الإدراك.
وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش: {بل ادّرك} بفتح لام بل، وتشديد الدال.
وقرأ ابن محيصن: {بل أدرك} على الاستفهام.
وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج: {بلى أدّارك} بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال.
وقرأ أبيّ {بل تدارك} ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به، وعاينوه.
وقيل: معناه: تتابع علمهم في الآخرة، والقراءة الثانية معناها: كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة، وذلك حين لا ينفعهم العلم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين.
وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدلّ على ذلك بقوله فيما بعد: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: المعنى: بل ضلّ، وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم، ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى، فافتعل، وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار.
قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها.
{بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا} أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشدّ منه، فقال: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} فلا يدركون شيئًا من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: إن معنى الآية الأولى أعني {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أنه كمل علمهم، وتمّ مع المعاينة فلابد من حمل قوله: {بْل هُمْ فَي شَكّ} إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى: الاستهزاء بهم، والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله: {بْل هُمْ فَي شَكّ} إلخ بما كانوا عليه في الدنيا.
وبهذا يتضح معنى هذه الآيات، ويظهر ظهورًا بينا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى}.
قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري.
والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًا.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني، عن رجل من بلهجيم قال: قلت: يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال: «أدعو الله وحده الذي إن مسك ضرّ فدعوته كشفه عنك» هذا طرف من حديث طويل.
وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدّثنا عفان، حدّثنا حماد بن سلمة، حدّثنا يونس، حدّثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي.
ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية وقالت في آخره: ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} قال: حين لا ينفع العلم.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ: {بل أدرك علمهم في الآخرة} قال: لم يدرك علمهم.
قال أبو عبيد: يعني: أنه قرأها بالاستفهام.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا: {بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ في الآخرة} يقول: غاب علمهم. اهـ.

.قال القاسمي في الآيات السابقة:

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قال الزمخشريّ: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المُسْمِع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرًا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عزّ وجلّ، وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين.
ثم قال: معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلًا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئًا على شيء، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثًا، لينّبهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورّط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52]، مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.
ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر. ثم قال: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}.
لطيفة:
قال ابن القيم في طريق الهجرتين في هذه الآية: كلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي: الحمد لله، ويكون الأمر بالقول متناولًا للجملتين معًا. وعلى هذا، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلها النصب محكيّة بالقول.
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.
وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلم.
وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.
ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول: قم وذهب زيد، ولا اخرجْ وقعد عَمْرو.
ويجاب على هذا بأن جملة الطلب، قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].