فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّور}.
قال ابن عباس: هذه النفخة الأولى.
قوله تعالى: {ففَزِعَ مَنْ في السمواتِ ومَن في الأرض} [قال المفسرون: المعنى: فيفزع مَن في السماوات ومن في الارض]، والمراد أنهم ماتوا، بلغ بهم الفزع إِلى الموت.
وفي قوله: {إِلاَّ مَنْ شاء اللّهُ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الشهداء، قاله أبو هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: جبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، ثم إِن الله تعالى يميتهم بعد ذلك، قاله مقاتل.
والثالث: أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن، وكذلك مَن في النار، لأنهم خُلقوا للبقاء، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقلا من أصحابنا.
قوله تعالى: {وكُلٌّ} أي: من الأحياء الذين ماتوا ثم أُحيوا {آتُوه} وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: {أَتَوْهُ} بفتح التاء مقصورة، أي: يأتون الله يوم القيامة {داخِرِينَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: صاغرين.
قال أبو عبيدة: {كُلٌّ} لفظه لفظ الواحد، ومعناه يقع على الجميع، فهذه الآية في موضع جمع.
قوله تعالى: {وتَرَى الجبالَ} قال ابن قتيبة: هذا يكون إِذا نُفخ في الصُّور، تُجمَع الجبالُ وتُسَيَّر، فهي لكثرتها تُحسب {جامدة} أي: واقفة {وهي تَمُرُّ} أي: تسير سير السحاب، وكذلك كلُّ جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفًا وهو يسير، لكثرته، قال الجَعْدِيّ يصف جيشًا:
بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهُمْ ** وُقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكاب تُهَمْلِجُ

قوله تعالى: {صُنْعَ اللّهِ} قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله: {وتَرَى الجبال تحسَبُها جامدةً} دليل على الصنعة، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعًا، ويجوز الرفع على معنى: ذلك صُنْع الله.
فأما الإِتقان، فهو في اللغة: إِحكام الشيءِ.
قوله تعالى: {إِنَّه خَبير بما تَفْعَلون} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: {يفعلون} بالياء.
وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بالتاء.
قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بالحسَنة} قد شرحنا الحسنة والسيِّئة في آخر [الأنعام: 160].
قوله تعالى: {فله خير منها} فيه قولان:
أحدهما: فله خير منها يصل إِليه، وهو الثواب، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة.
والثاني: فله أفضل منها، لأنه يأتي بحسنة فيُعطى عشر أمثالها، قاله زيد ابن أسلم.
قوله تعالى: {وهم من فزع يومئذ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر {مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ} مضافًا.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {مِنْ فَزَعٍ} بالتنوين {يومَئذٍ} بفتح الميم.
وقال الفراء: الإِضافة أعجب إِليَّ في العربية، لأنه فزع معلوم، ألا ترى إِلى قوله: {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأََكْبَرُ} [الانبياء: 103] فصيَّره معرِفة، فإذا أضفت مكان المعرفة كان أحبَّ إِليَّ.
واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال: هي أعمُّ التأويلين، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم.
قال أبو علي الفارسي: إِذا نوّن جاز أن يُعنى به فزعٌ واحدٌ، وجاز أن يُعنى به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإِن كانت مفردة الألفاظ، كقوله: {إِنَّ أنكر الأصوات لَصوتُ الحمير} [لقمان: 19]، وكذلك إِذا أضيف جاز أن يُعنى به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة؛ وعلى هذا القول، القراءتان سواء، فإن أريد به الكثرة، فهو شامل لكل فزع يكون يوم القيامة، وإِن أريد به الواحد، فهو المشار إِليه بقوله: {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ} [الأنبياء: 103].
قال ابن السائب: إِذا أطبقت النَّارُ على أهلها فَزِعوا فَزْعَةً لم يفزعوا مثلها، وأهل الجَنَّة آمنون من ذلك الفزع.
قوله تعالى: {ومَنْ جاء بالسَّيِّئة} قال المفسرون: هي الشِّرك {فكُبَّتْ وُجوهُهم} يقال: كَبَبْتُ الرجل: إِذا ألقيتَه لوجهه؛ وتقول لهم خَزَنة جهنم: {هل تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنتم تَعْمَلونَ} أي: إِلاَّ جزاءَ ما كنتم تعملون في الدُّنيا من الشِّرك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} أي واذكر يوم أو ذَكِّرهم يوم ينفخ في الصور.
ومذهب الفرّاء أن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور؛ وأجاز فيه الحذف.
والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل.
قال مجاهد: كهيئة البوق.
وقيل: هو البوق بلغة أهل اليمن.
وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك.
{فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} قال أبو هريرة قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما فرغ من خلق السموات خلق الصُّور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة» قلت: يا رسول الله ما الصُّور؟ قال: «قَرْن والله عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فِيهِ كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصَّعْق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين» وذكر الحديث.
ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم، وصححه ابن العربي.
وقد ذكرته في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هنالك، وأن الصحيح في النفخ في الصّور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما؛ أي فزعوا فزعًا ماتوا منه؛ أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره؛ فإنه قال في كلامه على هذه الآية: والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [ياس: 52]؛ ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم؛ وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء.
قاله قتادة وقال الماورديّ: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}.
هو يوم النشور من القبور، قال وفي هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم: فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك.
والقول الثاني: إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن؛ لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا.
وهذا أشبه القولين.
قلت: والسنة الثابتة من حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمر ويدلّ على أنهما نفختان لا ثلاث؛ خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان؛ قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدلّ على أنهما واحدة.
وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حيّ والأخرى يحيي الله بها كل ميت فإن قيل: فإن قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 6 7] إلى أن قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13] وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث.
قيل له: ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم؛ كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم.
قال مجاهد: هما صيحتان: أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله.
وقال عطاء: {الرَّاجِفَةُ} القيامة و{الرادِفَةُ} البعث.
قال ابن زيد: {الراجفة} الموت و{الرادفة} الساعة. والله أعلم.
{إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ثم اختلف في هذا المستثنى مَن هم.
ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الأحياء؛ وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش.
وقال القشيري: الأنبياء داخلون في جملتهم؛ لأن لهم الشهادة مع النبوّة وقيل: الملائكة.
قال الحسن: استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين.
قال مقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وقيل: الحور العين.
وقيل: هم المؤمنون؛ لأن الله تعالى قال عقيب هذا: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.
وقال بعض علمائنا: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل.
قلت: خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعوّل عليه؛ لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد.
والله أعلم.
وقيل: غير هذا على ما يأتي في الزُّمَر.
وقوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} ماض و{يُنْفَخُ} مستقبل فيقال: كيف عطف ماض على مستقبل؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى؛ لأن المعنى: إذا نفخ في الصور ففزع.
{إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} نصب على الاستثناء.
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير: {آتُوهُ} جعلوه فعلًا مستقبلًا.
وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} مقصورًا على الفعل الماضي، وكذلك قرأه ابن مسعود.
وعن قتادة {وَكُلٌّ أَتَاهُ دَاخِرِينَ}.
قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} وحدَّه على لفظ {كُلّ} ومن قرأ: {آتُوهُ} جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح؛ لأنه إذا قال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} فلم يوحّد وإنما جمع، ولو وحّد لقال: {أَتَاهُ} ولكن من قال: {أَتَوْهُ} جمع على المعنى وجاء به ماضيًا لأنه رده إلى {فَفَزِعَ} ومن قرأ: {وَكُلٌّ آتَوْهُ} حمله على المعنى أيضًا وقال: {آتُوهُ} لأنها جملة منقطعة من الأول.
قال ابن نصر: قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبي إسحاق: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} ويقرأ: {آتُوهُ} فمن وحّد فللفظ {كُلّ} ومن جمع فلمعناها.
يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر {كلّ} فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى؛ فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى.
قال المهدوي: ومن قرأ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى {كل} دون لفظها، ومن قرأ: {وَكُلٌّ آتُوهُ دَاخرِينَ} فهو اسم الفاعل من أتى.
يدلك على ذلك قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 95].
ومن قرأ: {وَكُلٌّ أَتَاهُ} حمله على لفظ {كلّ} دون معناها وحمل {دَاخرِينَ} على المعنى؛ ومعناه صاغرين؛ عن ابن عباس وقتادة.
وقد مضى في النحل.
قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيرًا حثيثًا.
قال القتبي: وذلك أن الجبال تُجمع وتُسيَّر، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير؛ وكذلك كل شيء عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر، لكثرته وبعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير.
قال النابغة في وصف جيش:
بِأَرْعَنَ مثل الطَّودِ تَحسبُ أنَّهمْ ** وقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكَابُ تُهملِجُ

قال القشيريّ: وهذا يوم القيامة؛ أي هي لكثرتها كأنها جامدة؛ أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير؛ أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء، فقال الله تعالى؛ {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها؛ وإبراز ما كانت تواريه؛ فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة؛ ثم تصير كالعهن المنفوش؛ وذلك إذا صارت السماء كالمُهْل، وقد جمع الله بينهما فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8 9].