فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تنقطع بعد أن كانت كالعهن.
والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارّة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها.
والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعًا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعدٍ حسبها لتكاثفها أجسادًا جامدة، وهي بالحقيقة مارّة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة.
والحالة السادسة أن تكون سرابًا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئًا منها كالسراب.
قال مقاتل: تقع على الأرض فتسوَّى بها.
ثم قيل هذا مثل.
قال الماوردي: وفيما ضُرِب له ثلاثة أقوال: أحدها أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب؛ قاله سهل بن عبد الله.
الثاني: أنه مثلٌ ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتًا في القلب وعمله صاعد إلى السماء.
الثالث: أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش.
{صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي هذا من فعل الله، وما هو فعل منه فهو متقَن.
و{تَرَى} من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين.
والأصل تَرْأَى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحرّكت الراء وحذفت الهمزة، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن، إلا أن التخفيف لازم لتَرَى.
وأهل الكوفة يقرؤون: {تَحْسَبُهَا} بفتح السين وهو القياس؛ لأنه من حَسِب يحسَب إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل، فتكون على فَعِل يفعِل مثل نعِم ينعِم وبَئِس يبئِس وحكي يَئس ييَئِس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف.
{وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} تقديره مرًّا مثل مرّ السحاب، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه؛ فالجبال تُزال من أماكنها من على وجه الأرض؛ وتُجمع وتُسيَّر كما تُسيّر السحاب، ثم تُكسّر فتعود إلى الأرض كما قال: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} [الواقعة: 5].
{صُنَعَ اللَّهِ} عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر؛ لأنه لما قال عز وجل: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} دلّ على أنه قد صنع ذلك صنعًا.
ويجوز النصب على الإغراء؛ أي انظروا صنع الله.
فيوقف على هذا على {السَّحَابِ} ولا يوقف عليه على التقدير الأوّل.
ويجوز رفعه على تقدير ذلك صنع الله.
{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي أحكمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله من عمل عملًا فأتقنه» وقال قتادة: معناه أحسن كل شيء.
والإتقان الإحكام؛ يقال: رجل تِقْن أي حاذق بالأشياء.
وقال الزهري: أصله من ابن تِقْن، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل؛ يقال: أَرْمَى من ابن تِقْن ثم يقال لكل حاذق بالأشياء تقن.
{إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء.
قوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: الحسنة لا إله إلا الله.
وقال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له: والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}.
وروى أبو ذَرّ قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: «اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» قال قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: «من أفضل الحسنات» وفي رواية قال: «نعم هي أحسن الحسنات». ذكره البيهقي.
وقال قتادة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} بالإخلاص والتوحيد.
وقيل: أداء الفرائض كلها.
قلت: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها على ما تقدّم بيانه في سورة إبراهيم فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض.
{فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها؛ وقاله مجاهد.
وقيل: فله الجزاء الجميل وهو الجنة.
وليس {خير} للتفضيل.
قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا؛ فإنه ليس شيء خيرًا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير.
وقيل: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد؛ قاله ابن عباس.
وقيل: يرجع هذا إلى الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرًا وبالإيمان في مدّة يسيرة الثواب الأبديّ؛ قاله محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد.
{وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي {فَزَعِ يَوْمَئِذٍ} بالإضافة.
قال أبو عبيد: وهذا أعجب إليّ لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} صار كأنه فزع دون فزع دون فزع.
قال القشيري: وقرئ: {مِنْ فَزَعٍ} بالتنوين ثم قيل يعني به فزعًا واحدًا كما قال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103].
وقيل: عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة.
قلت: فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى.
قال المهدوي: ومن قرأ: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالتنوين انتصب {يَوْمَئِذٍ} بالمصدر الذي هو {فَزَع}.
ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقًا بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو {آمِنُونَ}.
والإضافة على الاتساع في الظروف.
ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنًا، فلما أضيف إلى غير متمكن ولا معرب بني.
وأنشد سيبويه:
على حينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهمْ ** فَنَدلًا زُرَيْق المالِ نَدْلَ الثَّعَالِبِ

قوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة} أي بالشرك؛ قاله ابن عباس والنَّخعيّ وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية.
{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} قال ابن عباس: ألقيت.
وقال الضحاك: طرحت؛ يقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم منه أكب؛ وقلّما يأتي هذا في كلام العرب.
{هَلْ تُجْزَوْنَ} أي يقال لهم هل تجزون.
ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة.
{إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إلا جزاء أعمالكم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ويوم ينفخ في الصور}.
تقدم القول في الصور في سورة الأنعام، وهذه النفخة هي نفخة الفزع.
وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور.
وقيل: نفختان، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة، واستدلوا بقوله: {ثم نفخ فيه أخرى} ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.
وقال صاحب الغنيان: {ويوم ينفخ في الصور} للبعث من القبور والحشر، وعبر هنا بالماضي في قوله: {ففزغ}، وإن كان لم يقع إشعارًا بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى: {فأوردهم النار} بعد قوله: {يقدم قومه يوم القيامة} {إلا من شاء الله} أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه.
فقال مقاتل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام.
وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم، فهم حريون أن لا ينالهم هذا.
وقال الضحاك: الحور العين، وخزنة النار، وحملة العرش.
وعن جابر: منهم موسى، لأنه صعق مرة.
وقال أبو هريرة: هم الشهداء، ورواه أبو هريرة حديثًا، وهو: «أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون» وهو قول ابن جبير، قال: هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش.
وقيل: هم المؤمنون لقوله: {وهم من فزع يومئذ آمنون}.
قال بعض العلماء: ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل.
قال القرطبي: خفي عليه حديث أبي هريرة، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي، فيعول عليه في التعيين، وغيره اجتهاد.
وهذا النفخ هو حقيقة، إما في القرن، وإما في الصور، وهو قول الأكثرين.
وقيل: يجوز أن يكون تمثيلًا لدعاء الموتى، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت، فيكون ذلك مجازًا.
والأول قول الأكثرين، وهو الصواب، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح.
وقيل: ففزع، ليس من الفزع بمعنى الخوف، وإنما معناه: أجاب وأسرع إلى البقاء.
{وكل أتوه} المضاف إليه كل محذوف تقديره: وكلهم.
وقرأ الجمهور: آتوه، اسم فاعل؛ وعبد الله؛ وحمزة، وحفص: أتوه، فعلًا ماضيًا، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع، وقتادة: أتاه، فعلًا ماضيًا مسندًا الضمير كل على لفظها، وجمع {داخرين} على معناها.
وقرأ الحسن، والأعمش: دخرين، بغير ألف.
قيل: ومعنى آتوه: حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.
{ورى الجبال} هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى، أو من الجبال.
وجامدة، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور، وهي أول أحوال الجبال، تموج وتسير، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن، ثم تكون هباء منبثًا في آخر الأمر.
{وهي تمر مر السحاب} جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة، وتشبيه مرورها بمر السحاب.
قيل: في كونها تمر مرًا حثيثًا، كما مر السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش:
نار عن مثل الطود تحسب أنهم ** وقوف لحاج والركاب تهملج

وقيل: شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيرًا وسطًا، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ** مر السحابة لا ريث ولا عجل

وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها، قيل: لهول ذلك اليوم، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة.
وقال أبو عبد الله الرازي: الوجه في حسبانهم أنها جامدة، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت، ظن الناظر إليها أنها واقفة، وهي تمر مرًا حثيثًا. انتهى.
وقيل: وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه.
فأول الصفات: ارتجاجها، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، ثم نسفها، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض غير بارزة، وبالنسف برزت، ونفسها بإرسال الرياح عليها، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار، ثم كونها سرابًا، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئًا كالسراب.