فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} [الكهف: 47] فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي.
وانتصب قوله: {صنع الله} على المصدرية مؤكدًا لمضمون جملة {تمر مر السحاب} بتقدير: صنع الله ذلك صنعًا.
وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون.:
والجامدة: الساكنة، قاله ابن عباس.
وفي الكشاف: الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح، يعني أنه جمود مجازي، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع.
قال الراغب: إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعًا قال تعالى: {ويصنع الفلك} [هود: 38] {وعلمناه صنعة لبوس لكم} [الأنبياء: 80] يقال للحاذق المجيد: صنع، وللحاذقة المجيدة: صنّاع. اهـ.
وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب اللسان وصاحب القاموس واستدركه في تاج العروس.
قلت: وأما قولهم: بئس ما صنعت، فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلًا.
حسنًا ولم يتفطن لقبحه.
فالصنع إذا أطلق انصرف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة.
واعلم أن الصنع يطلق على العمل المتقن في الخير أو الشر قال تعالى: {تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر} [طه: 69]، ووصف الله ب {الذي أتقن كل شيء} تعميم قصد به التذييل، أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلًا لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع.
وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن، وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من نوع الخرم والتفكيك.
وجملة {إنه خبير بما تفعلون} تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله: {الذي أتقن كل شيء} لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره.
ثم جيء لتفصيل هذا بقوله: {من جاء بالحسنة} [النمل: 89] الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور، ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة {إنه خبير بما تفعلون} استئنافًا بيانيًا لجواب سائل: فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال، فأجيب جوابًا إجماليًا بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] الآية.
قرأ الجمهور {بما تفعلون} بتاء الخطاب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يفعلون} بياء الغائبين عائدًا ضميره على {من في السماوات ومن في الأرض} [النمل: 87].
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}.
{بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هذه الجملة بيان ناشيء عن قوله: {ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [النمل: 87] لأن الفزع مقتضضٍ الحشر والحضور للحساب.
و{من} في كلتا الجملتين شرطية.
والمجيء مستعمل في حقيقته.
والباء في {بالحسنة} و{بالسيئة} للمصاحبة المجازية، ومعناها: أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة.
وليس هذا كقوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} في آخر الأنعام (160).
فالمعنى هنا: من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة، فالمجيء ناظر إلى قوله: {وكل أتوه داخرين} [النمل: 87] والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله: {وهم من فزع يومئذ ءامنون}، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه، كما اقتضاه قوله: {فكبت وجوههم في النار}.
و{خير منها} اسم تفضيل اتصلت به من التفضيلية، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى: {فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] أو خير منها شرفًا لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله.
وقوله: {وهم من فزع يومئذ ءامنون} تبيين قوله آنفًا {إلا من شاء الله} [النمل: 87].
وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم.
وكذلك قوله: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار}، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء.
وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودركات العقاب.
وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلًا أو بالآخارة، وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها {فلا تظلم نفس شيئًا} [الأنبياء: 47].
وقرأ الجمهور {من فزع يومئذ} بإضافة {فزع} إلى {يوم} من {يومئذ} وإضافة يوم إلى {إذ} ففتحة يوم فتحة بناء، لأنه اسم زمان أضيف إلى اسم غير متمكن ف {فزع} معرف بالإضافة إلى يوم ويوم معرف بالإضافة إلى إذ وإذ مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض.
والتقدير: من فزع يوم إذ يأتون ربهم.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين {فزع}، و{يومئذ} منصوبًا على المفعول فيه فيه متعلقًا ب {آمنون}.
والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله.
{ففزع من في السماوات ومن في الأرض} [النمل: 87] فلما كان معينًا استوى تعريفه وتنكيره.
فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد.
والكب: جعل ظاهر الشيء إلى الأرض.
وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقول امرىء القيس:
يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل

وهذا من قبيل قوله تعالى: {سحروا أعين الناس} [الأعراف: 116] وقوله: {ولما سقط في أيديهم} [الأعراف: 149] وقول الأعشى:
وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تفرق

{فِى النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا}.
تذييل للزواجر المتقدمة، فالخطاب للمشركين الذين يسمعون القرآن على طريقة الالتفات من الغيبة بذكر الأسماء الظاهرة وهي من قبيل الغائب.
وذكر ضمائرها ابتداء من قوله: {إنك لا تسمع الموتى} [النمل: 80] وما بعده من الآيات إلى هنا.
ومقتضى الظاهر أن يقال: هل يجزون إلا ما كانوا يعملون فكانت هذه الجملة كالتلخيص لما تقدم وهو أن الجزاء على حسب عقائدهم وأعمالهم وما العقيدة إلا عمل القلب فلذلك وجه الخطاب إليهم بالمواجهة.
ويجوز أن تكون مقولًا لقول محذوف يوجه إلى الناس يومئذ، أي لا يقال لكل فريق: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}.
والاستفهام في معنى النفي بقرينة الاستثناء.
وورود {هل} لمعنى النفي أثبته في مغني اللبيب استعمالًا تاسعًا قال: أن يراد بالاستفهام بها النفي ولذلك دخلت على الخبر بعدها {إلا} نحو: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60].
والباء في قوله:
ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم

وقال في آخر كلامه: إن من معاني الإنكار الذي يستعمل فيه الاستفهام إنكار وقوع الشيء وهو معنى النفي.
وهذا تنفرد به {هل} دون الهمزة.
قال الدماميني في الحواشي الهندية قوله: يراد بالاستفهام بهل النفي يشعر بأن ثمة استفهامًا لكنه مجازي لا حقيقي. اهـ.
وأقول: هذا استعمال كثير ومنه قول لبيد:
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

وقول النابغة:
وهل عليّ بأن أخشاك من عار

حيث جاء بمن التي تدخل على النكرة في سياق النفي لقصد التنصيص على العموم وشواهده كثيرة.
ولعل أصل ذلك أنه استفهام عن النفي لقصد التقرير بالنفي.
والتقدير: هل لا تجزون إلا ما كنتم تعملون، فلما اقترن به الاستثناء غالبًا والحرف الزائد في النفي في بعض المواضع حذفوا النافي وأشربوا حرف الاستفهام معنى النفي اعتمادًا على القرينة فصار مفاد الكلام نفيًا وانسلخت {هل} عن الاستفهام فصارت مفيدة النفي.
وقد أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى: {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} في الأعراف (147). اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضًا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن، لأن غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية النمل هذه.
وإيضاح ذلك: أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشًا:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ** وقوف لحاج والركاب تهملج

والنوعان المذكوران من أنواع الباين يبينان عدم صحة هذا القول.
أما الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال} معطوف على قوله: {ففزع} وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات} [النمل: 87] الآية. أي ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات، وترى الجبال، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن.
وأما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح، لأن جميع الآيات التي فيها حركه الجبال كلها في يوم القيامة، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْرًا وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} [الطور: 910] وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] وقوله تعالى: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] جاء نحوه في آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المومنون: 14] وقوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3] وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها كل ذلك صنع متقن. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}.