فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قد قدمنا الآيات التي بمعناه في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} إلى قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5].
قوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}.
اعلم أن الحسنة في هذه الآية الكريمة تشمل نوعين من الحسنات.
الأول حسنة: هي فعل خير من أفعال العبد، كالإنفاق في سبيل الله، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة الله، ونحوه ذلك ومعنى قوله تعالى: {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات، أن الثواب مضاعف، فهو خير من نفس العمل، لأن من أنفق درهمًا واحدًا في سبيل الله فأعطاه الله ثواب سبعمائة درهم فله عند الله ثواب هو سبعمائة درهم مثلًا، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد، وهذا لا إشكال فيه كما ترى.
وهذا المعنى توضحه آيات الله كقوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها، هي وحدها وكقوله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] وقوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261] الآية.
وأما النوع الثاني من الحسنة: فكقول من قال من أهل العلم: إن المراد بالحسنة في هذه الآية: لا إله إلا الله، ولا يوجد شيء خير من لا إله إلا الله. بل هي أساس الخير كله، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة خير ليست صيغة تفضيل.
وأن المعنى فله خير عظيم عند الله حاصل له منها: أي من قبلها ومن أجلها وعليه فلفظة من في الآية كقوله تعالى: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا} [نوح: 25] أي من أجل خطيآتهم أغرقوا، فأدخلوا نارًا. وأما على الأول فخير صيغة تفضيل، ويحتمل عندي. أن لفظة خير على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضًا، ولا يراد بها تفضيل شيء على لا إله إلا الله، بل المراد أن كلمة لا إله إلا الله تعبد العبد في دار الدنيا، وتعبده بها فعله المحض، وقد أثابه الله في الآخرة على تعبده بها، وإثابة فعله جل وعلا، ولا شك أن فعل الله خير من فعل عبده، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.
دلت على معناه آيات من كتاب الله كقوله تعالى في أمنهم من الفزع: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} [الأنبياء: 103] الآية. وقوله تعالى في أمنهم: {فأولئك لَهُمْ جَزَاءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] وقوله تعالى: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِنًا يَوْمَ القيامة} [فصلت: 40] الآية. وقوله تعالى: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} قرأه عاصم، وحمزة، والكسائي يتنوين فزع، وفتح ميم يومئذ، وقرأه الباقون بغير تنوين، بل بالإضافة إلى يومئذ، إلا أن نافعًا قرأ بفتح ميم يومئذ مع إضافة فزع إليه، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بإضافة فزع إلى يومئذ مع كسر ميم يومئذ، وفتح الميم وكسرها من نحو يومئذ قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} [مريم: 15] الآية.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، وابو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسدي، والضحاك، والحسن وقتادة، وابن زيد في قوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة} يعني: الشرك.
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين:
الأول: أن من جاء ربه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكب وجهه في النار.
والثاني: أن السيئة إنما تجزي بمثلها من غير زيادة، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأول منهما: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] وكقوله تعالى في الثاني منهما: {وَمَن جَاءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] الآية. وقوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [القصص: 84] وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26].
وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان كقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] أو حرمة الزمان كقوله تعالى في الأشهر الحرم: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
وقد دلت آيات من كتاب الله أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 74- 75] وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44- 46] الآية وكقوله تعالى في أزواجه صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] الآية، قد قدمنا طرفًا من الكلام على هذا في الكلام، على قوله تعالى: {إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 75] مع تفسير الآية، ومضاعفة السيئة المشار إليها في هاتين الآيتين، إن كانت بسبب عظم الذنب، حتى صار في عظمه كذنبين، فلا إشكال، وإن كانت مضاعفة جزاء السيئة كانت هاتان الآيتان مخصصتين للآيات المصرحة، بأن السيئة لا تجزي إلا بمثلها، والجميع محتمل، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}.
وكأن الله تعالى يقول لي: التفتْ إلى العبرة في الآيات الكونية، حيث ستنفعك في يوم آت هو يوم القيامة {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87] وهو البوق {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} [النمل: 87] والفزع: الخوف الشديد الذي يأخذ كلَّ مَنْ في السموات، وكل مَنْ في الأرض {إِلاَّ مَن شَاءَ الله} [النمل: 87] قالوا: هم الملائكة: إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وجبريل، وميكائيل، وعزرائيل.
لذلك لما تكلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة الصعق هذه قال: «فأفيق من الصعقة فأجد أخي موسى ماسكًا بالعرش» ذلك لأن موسى عليه السلام صعق في الدنيا مرة حين تجلَّى ربه للجبل، كما حكى القرآن: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
وما كان الله تعالى ليجمع على نبيه موسى عليه السلام صعقتين، لذلك لم يُصعَق صعقة الآخرة.
وقوله سبحانه: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] أي: صاغرين أذلاء، لا يتأبى على الله منهم أحد، حيث لا قدرةَ له على ذلك؛ لأن القيامة أنهتْ الاختيار الذي كان لهم في الدنيا، وبه ملّكهم الله شيئًا من المِلْك: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
فأعطى الله تعالى طرفًا من الملْك، ووهبه لبعض عباده في دنيا الأسباب والاختيار، أمَّا في الآخرة فالملْك لله تعالى وحده، لا ينازعه فيه أحد: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
في القيامة يُنزع منك كلّ شيء تملكه وكلّ قدرة لك على ما تملك حتى جوارحك لا قدرةَ لك عليها، ولا إرادةَ لتنفعل لك، هي تبع إرادتك في الدنيا، وبها ترى وتسمع وتمشي وتبطش، أمَّا في الآخرة فقد سُلِبت منك هذه الإرادة، بدليل أنها ستشهد عليك، وتُحاجّك يوم القيامة.
ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا}.
قوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] اي: تظنها ثابتة، وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك نسميها الرواسي والأوتاد {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] أي: ليس الأمر كما تظن؛ لأنها تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب، لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها.
وهَبْ أننا في هذا المجلس، أنتم أمامي وأنا أمامكم، وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور بنا، أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟
إذن: لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك، ألاَ ترى أنك تركب القطار مثلًا ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت.
ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل الله عنهم هذا العجب، فيقول: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] يعني: لا تتعجب، فالمسألة من صُنع الله وهندسته وبديع خَلْقه، واختار هنا من صفاته تعالى: {الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] يعني: كل خَلْق عنده بحساب دقيق مُتقَن.
البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5].
وقد جانبه الصواب لأن معنى {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] أنها ستتفتت وتتناثر، لا أنها تمر، وتسير هذه واحدة، والأخرى أن الكلام هنا مبنيٌّ على الظن {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] وليس في القيامة ظن؛ لأنها إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ.
ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته، وليس له موتور يُحركِّه، إنما يُحرِّكه الهواء، كذلك الجبال حركتها ليست ذاتيةٌ فيها، فلم نَرَ جبلاَ تحرَّك من مكانه، فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض؛ لأنها أوتاد عليها، فحركة الوتد تابعة للموتود فيه.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجبال قال: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].
ولو خُلِقتْ الأرض على هيئة السُّكون ما احتاجتْ لما يُثبِّتها، فلابد أنها مخلوقة على هيئة الحركة.
في الماضي وقبل تطور العلم كانوا يعتقدون في المنجِّمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون الغيب، أما الآن وقد توصَّل العلماء إلى قوانين حركة الأرض وحركة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكّنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف مثلًا ونوع كل منهما ووقته وفعلًا تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه لا تتخلف.
واستطاعوا بحساب هذه الحركة أنْ يصعدوا إلى سطح القمر، وأن يُطلِقوا مركبات الفضاء ويُسيِّروها بدقة حتى إنَّ إحداها تلتحم بالأخرى في الفضاء الخارجي.
كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق مُتيقَّنة لأدتْ إلى نتائج خاطئة وتخلفتْ.
ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال، أن قوله تعالى: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] امتنان من الله تعالى بصنعته، والله لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة، إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا.
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}.
لهذه الآية صلة لطيفة بما قبلها: فكما أن الآيات الكونية التي أخبر بها الحق تبارك وتعالى حقيقة واقعة، وتأكدتَ أنت من صِدْقها حيث شاهدتها بنفسك وأدركتها بحواسك، فكما أخبرناك بهذه الآيات نُخبرك الآن بحقيقة أخرى ينبغي أن تصدقها، وأن تأخذ من صدْق ما شاهدتَ دليلًا على صِدْق ما غاب عنك، فربُّك يُخبِرك بأنه {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89].
الحسنة: فعل الانفعال فيه يكون لمطلوب الله في العبادة، فإن فعلتَ الفعل على مراد الله تعالى كانت لك حسنة، والحسنة عند الله بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضِعْف على مقدار طاقة الفاعل من الإخلاص والتجرُّد لله في فعله.
والمعنى: {مَن جَاءَ بالحسنة} [النمل: 89] أي: في الدنيا {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89] أي: ناشيء عنها في الآخرة.
ونسمع من البعض مَنْ يقول: إذا كان قولنا: لا إله إلا الله حسنة فالثواب عليها خَيْر منها. وهذا القول ناتج عن فَهْم غير دقيق لمعنى الآية؛ لأن الله تعالى الذي أُقر به في الشهادة هو الذي يهبني هذا الثواب، فمَنْ جاء بالحسنة له خير ناشيء من هذه الحسنة ومُسبّب عنها. كما لو قلت: مأمور المركز خير من وزير الداخلية: أي خَيْر جاءنا من ناحيته، ووصل إلينا من طرفه، أليس هو صاحب قرار تعيينه؟
ومن ذلك ما يقوله أصحاب الطريق والمجاذيب يقولون: محمد خير من ربه، وفي مثل هذه الأقوال لعب بأفكار الناس وإثارة لمشاعرهم، وربما تعرض للإيذاء، فكيف يقول هذه الكلمة ومحمد مُرْسَل من عند الله؟ وحين تُمعِن النظر في العبارة تجدها صحيحة، فمراد الرجل أن محمدًا خير جاءنا من عند الله.
أو: يكون المعنى {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89] أن الجزاء على الحسنة خير من الحسنة؛ لأنك تفعل الحسنة فِعْلًا موقوتًا، أمّا خيرها والثواب عليها، فسيظل لك خالدًا بلا نهاية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن جَاءَ بالسيئة}.
معنى: {فَكُبَّتْ} [النمل: 90] ألقيت بعنف، وخصّ الوجوه مع أن الأعضاء كلها ستكبُّ؛ لأنه أشرفها وأكرمها عند صاحبها، والوجه موضع العزة والشموخ، فالحق تبارك وتعالى يريد لهم الذلَّة والمهانة، وفي موضع آخر يُبيِّن أن كل الأعضاء ستكبُّ في النار، فيقول تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94].
وليس هذا المصير ظلمًا لهم، ولا افتراءً عليهم {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وكما يقول سبحانه: {لاَ ظُلْمَ اليوم} [غافر: 17] فلم نجامل صاحب الحسنة، ولم نظلم صاحب السيئة. اهـ.