فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضًا، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} [قريش: 3، 4] ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة» من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم، ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجرى عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصًا أو مدحًا.
وقوله تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شيء} أي خلقًا وملكًا وتصرفًا، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله، لأنه في معنى كل شيء لله عز وجل، نحو تمرة خير من جرادة، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون: شيء لله يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور، إما على معنى أعطني شيئًا لوجه الله تعالى يا فلان، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى؛ وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} [النساء: 125].
{وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان} أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد، وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئًا فشيئًا فإن المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية، وقد حكي أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلي فقرأ قواله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر، وقيل أتلو من تلاه إذا تبعه، أي وأن أتبع القرآن، وهو خلاف الظاهر، ويؤيد ما ذكرناه أولًا من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر عن هارون واتل عليهم القرآن وحكى عنه في البحر أنه قرأ واتل هذا القرآن، ولا تأييد فيه لما ذكرنا.
وقرأ عبد الله وأن أتل بغير واو أمرًا من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت {فَمَنُ اهتدى} أي بالإيمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، وقيل أي بالاتباع فيما ذكر من العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن أو اتباعه {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه {وَمَن ضَلَّ} بالكفر به والإعراض عنه، وقيل بالمخالفة فيما ذكر {فَقُلْ} أي له.
{إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس علي من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه، وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفًا أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه، وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم أن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن اهتدى الخ من كلامه عز وجل عقب به أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما قبله، ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ} [النمل: 91] كما سمعت.
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} أي على ما أفاض علي من نعمائه التي من أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة، وقوله تعالى: {سَيُرِيكُمْ ءاياته} من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه: {فَتَعْرِفُونَهَا} أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حيث لا تنفعكم المعرفة، وقيل: أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات الله تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة، وقيل: هي خروج الدابة وسائر أشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة.
وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الآيات الأنفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الافاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53]؛ وقيل: المراد بها معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز وجل أظهرها على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للتصديق، والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولًا: به عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانيًا: للكفرة تغليبًا أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلًا منكم بعمله لا محالة، وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذه الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الأفهام ولله تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في كلام الملك العلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}.
أتت هذه السورة على كثير من مطاعن المشركين في القرآن وفيما جاء به من أصول الإسلام من التوحيد والبعث والوعيد بأفانين من التصريح والتضمن والتعريض بأحوال المكذبين السالفين مفصلًا ذلك تفصيلًا ابتداء من قوله: {تلك ءايات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين} [النمل: 1، 2] إلى هنا، فلما كان في خلال ذلك إلحافهم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بما وعدهم أو أن يعين لهم أجل ذلك ويقولون {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [النمل: 71].
وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياسًا وتمثيلًا، وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله: {إذ قال موسى لأهله إني آنست نارًا} [النمل: 7] وقوله: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} [النمل: 79]، وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون.
بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافًا يكون فذلكة الحساب، وختامًا للسورة وفصل الخطاب، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة، وجاءوا به من خلبطة، ويزيد الرسول تثبيتًا وتطمينًا بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} فهذا تلقين للرسول صلى الله عليه وسلم والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو {فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله} [النمل: 92، 93] فإن الأول: مفرّع عليه فهو متصل به.
والثاني: معطوف على أول الكلام.
وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب تعجيب الوعيد، وما تطاولوا به من إنكار الحشر.
والمعنى: ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلمًا وأن أتلو القرآن عليكم، ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه؛ ومن ضل فما أنا بقادر على اهتدائه، ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هديًا حتى أهلك الله الضالين.
وهذا في معنى قوله تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} [آل عمران: 20].
وقد أدمج في خلال هذا تنويهًا بشأن مكة وتعريضًا بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها، وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله.
{وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} [النمل: 74].
فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة، دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل: التي حرمها الله، لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بضلالهم إذ عبدوا أصنامًا لا تملك من البلدة شيئًا ولا أكسبتها فضلًا ومزية، وهذا كقوله: {فليعبدوا رب هذا البيت} [قريش: 3].
والإشارة إلى البلدة التي هم بها لأنها حاضرة لديهم بحضور ما هو باد منها للأنظار.
والإشارة إلى البقاع بهذا الاعتبار فاشية قال تعالى: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة} [هود: 60] وقال: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت: 31].
والعدول عن ذكر مكة باسمها العلم إلى طريقة الإشارة لما تقتضيه الإشارة من التعظيم.
وتبيين اسم الإشارة بالبلدة لأن البلدة بهاء التأنيث اسم لطائفة من الأرض معينة معروفة محوزة فيشمل مكة وما حولها إلى نهاية حدود الحرم.
ومعنى {حرمها} جعلها حرامًا، والحرام الممنوع، والتحريم المنع.
ويعلم متعلق المنع بسياق ما يناسب الشيء الممنوع.
فالمراد من تحريم البلدة تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر.
فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاعتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة.
وهذا التحريم مما أوحى الله به إلى إبراهيم عليه السلام إذ أمره بأن يبني بيتًا لتوحيده وباستجابته لدعوة إبراهيم إذ قال: {رب اجعل هذا بلدًا ءامنًا} [البقرة: 126].
فالتحريم يكون كمالًا للمحرم ويكون نقصًا على اختلاف اعتبار سبب التحريم وصفته، فتحريم المكان والزمان مزية وتفضيل، وتحريم الفواحش والميتة والدم والخمر تحقير لها، والمحرمات للنسل والرضاع والصهر زيادة في الحرمة.
فتحريم المكان: منع ما يضرّ بالحال فيه.
وتحريم الزمان، كتحريم الأشهر الحرم: منع ما فيه ضر للموجودين فيه.
وتعقيب هذا بجملة {وله كل شيء} احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها ليعلم أن تلك الإضافة لتشريف المضاف إليه لا لتعريف المضاف بتعيين مظهر ملكه.
وتكرير {أمرت} في قوله: {وأمرت أن أكون من المسلمين} للإشارة إلى الاختلاف بين الأمرين فإن الأول أمر يعمله في خاصة نفسه وهو أمر إلهام إذ عصمه الله من عبادة الأصنام من قبل الرسالة.
والأمر الثاني أمر يقتضي الرسالة وقد شمل دعوة الخلق إلى التوحيد.
ولهذه النكتة لم يكرر أمرت في قوله: {وأن أتلوا القرءان} لأن كلًا من الإسلام والتلاوة من شئون الرسالة.
وفي قوله: {أن أكون من المسلمين} تنويه بهذه الأمة إذ جعل الله رسوله من آحادها، وذلك نكتة عن العدول عن أن يقول: أن أكون مسلمًا.