فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتلاوة: قراءة كلام معين على الناس، وقد تقدم في قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} [البقرة: 121]، وقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في سورة البقرة (102).
وحذف متعلق التلاوة لظهوره، أي أن أتلوا القرآن على الناس.
وفرع على التلاوة ما يقتضي انقسام الناس إلى مهتد وضال، أي منتفع بتلاوة القرآن عليه وغير منتفع مبينًا أن من اهتدى فإنما كان اهتداؤه لفائدة نفسه.
وهذا زيادة في تحريض السامعين على الاهتداء بهدي القرآن لأن فيه نفعه كما آذنت به اللام.
وإظهار فعل القول هنا لتأكيد أن حظ النبي صلى الله عليه وسلم دعوة المعرضين الضالين أن يبلغهم الإنذار فلا يطمعوا أن يحمله إعراضهم على أن يلح عليهم قبول دعوته.
والمراد بالمنذرين: الرسل، أي إنما أنا واحد من الرسل ما كنت بدعًا من الرسل وسنتي سنة من أرسل من الرسل قبلي وهي التبليغ {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35].
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}.
كان ما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمعاندين مشتملًا على أن الله هداه للدين الحق من التوحيد وشرائع الإسلام وأن الله هدى به الناس بما أنزل الله عليه من القرآن المتلو، وأنه جعله في عداد الرسل المنذرين، فكان ذلك من أعظم النعم عليه في الدنيا وأبشرها بأعظم درجة في الآخرة من أجل ذلك أمر بأن يحمد الله بالكلمة التي حمد الله بها نفسه وهي كلمة {الحمد لله} الجامعة لمعان من المحامد تقدم بيانها في أول سورة الفاتحة.
وقد تقدم الكلام على قوله: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} في هذه السورة (59).
ثم استأنف بالاحتراس مما يتوهمه المعاندون حين يسمعون آيات التبرؤ من معرفة الغيب، وقصر مقام الرسالة على الدعوة إلى الحق من أن يكون في ذلك نقض للوعيد بالعذاب فختم الكلام بتحقيق أن الوعيد قريب لا محالة وأن الله لا يخلف وعده فتظهر لهم دلائل صدق الله في وعده.
ولذلك عبر عن الوعيد بالآيات إشارة إلى أنهم سيحل بهم ما فيه تصديق لما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يوقنون أن ما كان يقول لهم هو الحق، فمعنى {فتعرفونها} تعرفون دلالتها على ما بلغكم الرسول من النذارة لأن المعرفة لما علقت بها بعنوان أنها آيات الله كان متعلق المعرفة هو ما في عنوان الآيات من معنى الدلالة والعلامة.
والسين تؤذن بأنها إراءة قريبة، فالآيات حاصلة في الدنيا مثل الدخان، وانشقاق القمر، واستئصال صناديدهم يوم بدر، ومعرفتهم إياها تحصل عقب حصولها ولو في وقت النزع والغرغرة.
وقد قال أبو سفيان ليلة الفتح: لقد علمت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا.
وقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].
فمن الآيات في أنفسهم إعمال سيوف المؤمنين الذين كانوا يستضعفونهم في أعناق سادتهم وكبرائهم يوم بدر.
قال أبو جهل وروحه في الغلصمة يوم بدر وهل أعمد من رجل قتله قومه يعني نفسه وهو ما لم يكن يخطر له على بال.
وقوله: {وما ربك بغافل عما تعملون} قرأه نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب {تعملون} بتاء الخطاب فيكون ذلك من تمام ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله للمشركين.
وفيه زيادة إنذار بأن أعمالهم تستوجب ما سيرونه من الآيات.
والمراد: ما يعملونه في جانب تلقي دعوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه لأن نفي الغفلة عن الله مستعمل في التعريض بأنه منهم بالمرصاد لا يغادر لهم من عملهم شيئًا.
وقرأ الباقون {يعملون} بياء الغيبة فهو عطف على {قل}، والمقصود تسلية الرسول عليه السلام بعدما أمر به من القول بأن الله أحصى أعمالهم وأنه مجازيهم عنها فلا ييأس من نصر الله. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن}.
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104] الآية. وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 34] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن}.
قد قدمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا: {وأن أتلو القرآن} في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27] الآية.
قوله تعالى: {وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين}.
جاء معناه مبينًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}.
جاء معناه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].
وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: عما تعملون بتاء الخطاب، وقرأ الباقون عما يعملون بياء الغيبة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا}.
فما دام أن الله تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية، وذكَّرنا بالآخرة، وما فيها من الثواب والعقاب، فما عليك إلا أنْ تلتزم عرفت فالزم واعلم أن مَنْ أبلغك منهج الله سيسبقك إلى الالتزام به، فالشرع كما أمرك أمرني.
{إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة} [النمل: 91] فإنْ طلبتُ منكم شيئًا من التكاليف فقد طالبتُ نفسي به أولًا؛ لأنني واثق بصدق تبليغي عن الله؛ لذلك ألزمتُ نفسي به.
والعبادة كما قلنا: طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى؛ لأن ربك خلقك من عَدَم، وأمدك من عُدْم، ونظّم لك حركة حياتك، فإنْ كلَّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لأنه رب مُتولٍّ لتربيتك، فإنْ تركك بلا منهج، وبلا افعل ولا تفعل، كانت التربية ناقصة.
إذن: من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجِّه نحن أولادنا الصغار ونُربِّيهم، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربِّي، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلابد أن تطيعه.
لذلك نلحظ في هذه الآية: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة} [النمل: 91] ولم يقُلْ: أُمِرت أن أطيع الله؛ لأن الألوهية تكليف، أمّا الربوبية فعطاء وتربية، فالآية تُبيِّن حيثية سماعك للحكم من الله، وهي أنه تعالى يُربِّيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية.
لذلك، الصِّديق أبو بكر حينما حدثوه عن الإسراء والمعراج لم يُمرِّر المسألة على عقله، ولم يفكر في مدى صِدْقها، إنما قال عن رسول الله: إن كان قال فقد صدق فالميزان عنده أن يقول رسول الله، ثم يُعلِّل لذلك فيقول: إني لأُصدِّقه في الخبر يأتي من السماء، فكيف لا أُصدِّقه في هذه.
وقال تعالى: {رَبَّ هَذِهِ البلدة} [النمل: 91] أي: مكة وخصّها بالذكْر؛ لأن فيها بيته {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة {الذي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] فهي مُحرَّمة يحرم فيها القتال، وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب وفساد الخلاف الذي يُفضي بكل فريق لأنْ تأخذه العزة، فلا يجد حلًا إلا في السيف.
وكأن الحق تبارك وتعالى يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْرًا يستترون خلفه، فلا ينساقون خلف غرورهم، فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم، وحُرْمة الزمان في الأشهر الحرم لأن كل فعل لابد له من زمان ومكان حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لأحدهم أن يقول: لم أمتنع عن ضعف. ولولا أن الله منعني لفعلْتُ وفعلْتُ، ويستتر خلف ما شرَّع الله من منع القتال، إلى أنْ يذوق حلاوة السلام فتلين نفسه، وتتوق للمراجعة.
ولحرمة مكة كان الرجل يلاقي فيها قاتل أبيه، فلا يتعرَّض له احترامًا لحرمة البيت، وقد اتسعتْ هذه الحرمة لتشمل أجناسًا أخرى، فلا يُعضد شجرها، ولا يُصاد صَيْدها.
ثم يقول تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} [النمل: 91] لأن الله تعالى حين يصطفي من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، ويصطفي من الأرض أمكنة، ومن الزمان، يريد أن يشيع الاصطفاء في كل شيء.
فالحق تبارك وتعالى لا يُحَابي أحدًا، فحين يرسل رسولًا يُبلِّغ رسالته للناس كافة، فيعود نفعه على الجميع، وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع؛ لذلك عطف على {الذي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] فقال: {كُلُّ شَيءٍ} [النمل: 91] فالتحريم جُعل من أجل هؤلاء.
ثم يقول سبحانه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [النمل: 91] أي: المنفذين لمنهج الله يعني: لا أعتقد عقائد أخبر بها ولا أُنفِّذها، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن فائدة الإيمان أنْ تعملَ به، كما قال تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 13].
فالله تعالى يريد أن يُعدِّي الإيمان والأحكام إلى أن تكون سلوكًا عمليًا في حركة الحياة.
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)}.
أنت حين تقرأ القرآن في الحقيقة لا تقرأ إنما تسمع ربنا يتكلم، ومعنى {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} [النمل: 92] يعني: استدم أُنْسك بالكتاب الذي كُلِّفت به، ليدل على أنك من عِشْقك للتكليف، عشقتَ المكلّف، فأحببتَ سماعه، وتلاوة القرآن في ذاتها لذة ومتعة؟.
فأنا سآخذ من تلاوته لذةَ، وأستديم البلاغ بالقرآن للناس، وبعد ذلك أنا نموذج أمام أمتي، كما قال سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
يعني: شيء يُقتدى به، وما دام أن الرسول قدوة، فكل مقام للرسول غير الرسالة مَنْ سار على قدم الرسول يأخذ منه، وكذلك مكان كل إنسان في التقوى، على قَدْر اعتباره واقتدائه بالأُسْوة، أما الرسالة فدَعْك منها؛ لأنك لن تأخذها.
ومعنى {اهتدى} [النمل: 92] أي: وصلتْه الدلالة واقتنع بها {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل: 92] لأن الله سيعطيه المعونة، ويزيده هدايةً وتوفيقًا {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
إذن: فالهداية والتقوى لا تنفع المشرِّع، إنما تنفع العبد الذي اهتدى.
ثم يذكر المقابل {وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين} [النمل: 92] أنا لا يعنيني إلا أنني من المنذرين، وأنت إنما تضلّ على نفسك، وتتحمل عاقبة ضلالك.
وبعد أنْ أتممتَ ما خاطبك ربك به بأنْ تعبدَ ربَّ هذه البلدة وكنتَ من المسلمين، وبعد أنْ تلوتَ القرآن، واستدمت الأُنس واللذَّة بسماع الله يتكلم، ثم بلَّغته للناس، فإذا فعلتَ كل هذا أحمد الله الذي وفَّقك إليه: {وَقُلِ الحمد للَّهِ} أي: الحمد لله على نعمه وعلى ما هدانا، والحمد لله الذي لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإنذار إليه.
والله سيريكم آياته في أنفسكم وفي غيركم، فتعرفون دلائل قدرته سبحانه ووحدانيته في أنفسكم، وفي السماوات والأرض.
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93].
بل هو شهيد على كل شيء. اهـ.