فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى}.
أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بتحميده ثم بالصلاة على المصطفين من عباده توطئه لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته وقدرته على كل شيء وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما، أو هو خطاب للوط عليه السلام بأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم {ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} بالياء: بصري وعاصم.
ولا خير فيما أشركوه أصلًا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شيء، وإنما هو إلزام لهم وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئًا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثًا لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله فقال.
{أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} والفرق بين أم وأم في {أما يشركون} و{أمن خلق السماوات} أن تلك متصلة إذ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، ولما قال الله خير أم الآلهة قال بل أمن خلق السماوات والأرض خير، تقريرًا لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاءً} مطرًا {فَأَنبَتْنَا} صرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيدًا لمعنى اختصاص الفعل بذاته وإيذانًا بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع حسنها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده {بِهِ} بالماء {حَدَائِقَ} بساتين، والحديقة: البستان وعليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة {ذَاتُ} ولم يقل ذوات لأن المعنى جماعة حدائق كما تقول النساء ذهبت {بَهْجَةٍ} حسن لأن الناظر يبتهج به.
ثم رشح معنى الاختصاص بقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} ومعنى الكينونة الانبغاء أراد أنّ تأتّى ذلك محال من غيره {أءلاه مَّعَ الله} أغيره يقرن به ويجعل شريكًا له {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد و{بل هم} بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم.
{أَمَّن جَعَلَ الأرض} وما بعده بدل من {أمن خلق} فكان حكمها حكمه {قَرَارًا} دحاها وسواها للاستقرار عليها {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا} ظرف أي وسطها وهو المفعول الثاني والأول {أَنْهَارًا} وبين البحرين مثله {وَجَعَلَ لَهَا} للأرض {رَوَاسِىَ} جبالًا تمنعها عن الحركة {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} العذب والمالح {حَاجِزًا} مانعًا أن يختلطا {أءلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} التوحيد فلا يؤمنون {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} الاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ.
يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر، والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله، أو المذنب إذا استغفر، أو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد وهو منه على خطر {وَيَكْشِفُ السوء} الضر أو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} أي فيها وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنًا بعد قرن، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط {أَءِلَهٌ مَّعَ الله قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} وبالياء: أبو عمرو، وبالتخفيف: حمزة وعلي وحفص.
وما مزيدة أي تذكرون تذكرًا قليلًا.
{أَمَّن يَهْدِيكُمْ} يرشدكم بالنجوم {فِى ظلمات البر والبحر} ليلًا وبعلامات في الأرض نهارًا {وَمَن يُرْسِلُ الرياح} {الريح} مكي وحمزة وعلى {بشرًا} من البشارة وقد مرّ في الأعراف {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} قدام المطر {أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق} ينشيء الخلق {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وإنما قيل لهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار فلم يبق لهم عذر في الإنكار {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء} أي المطر {والأرض} أي ومن الأرض النبات {أءلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم} حجتكم على إشراككم {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم أن مع الله إلهًا آخر.
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} {من} فاعل {يعلم} و{الغيب} هو ما لم يقم عليه دليل ولا أطلع عليه مخلوق مفعول و{الله} بدل مِن {مَن} والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله.
نعم إن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ممن في السماوات والأرض ولكنه جاء على لغة بني تميم حيث يجرون الاستثناء المنقطع مجرى المتصل ويجيزون النصب والبدل في المنقطع كما في المتصل ويقولون ما في الدار أحد إلا حمار.
وقالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}.
وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يعلمون {أَيَّانَ} متى {يُبْعَثُونَ} ينشرون.
{بَلِ ادرك} {أدرك} مكي وبصري ويزيد والمفضل أي انتهى وتكامل من أدركت الفاكهة تكاملت نضجًا {بَلِ ادارك} عن الأعشى افتعل.
{بَلِ ادّارك} غيرهم استحكم وأصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وزيد ألف الوصل ليمكن التكلم بها {عِلْمُهُمْ في الآخرة} أي في شأن الآخرة ومعناها، والمعنى أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون وذلك قوله: {بَلْ هُمْ في شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وتكرير لجهلهم، وصفهم أولًا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالًا وهو العمى.
وقد جعل الآخرة مبتدأ عماهم ومنشأة فلذا عداه بمن دون عن لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التدبر والتفكر.
ووجه ملاءمة مضمون هذه الآية وهو وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب وأن العباد لا علم لهم بشيء منه، أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب وكان هذا بيانًا لعجزهم ووصفًا لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزًا أبلغ منه وهو أنهم يقولون للكائن الذي لابد من كونه وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به.
وجاز أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكمًا بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزؤ وذلك حيث شكوا عموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك فضلًا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته، ويجوز أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم، وقد فسرها الحسن بإضمحل علمهم في الآخرة.
وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ} من قبورنا أحياء وتكرير حرف الاستفهام في {أءذا} و{أءنا} في قراءة عاصم وحمزة وخلف، إنكار بعد إنكار وجحود عقيب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه.
والعامل في {إذا} ما دل عليه {لمخرجون} وهو نخرج لأن اسم الفاعل والمفعول بعد همزة الاستفهام، أو إن أو لام الابتداء لا يعمل فيما قبله فكيف إذا اجتمعن؟ والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأن كونهم ترابًا قد تناولهم وآباءهم لكنه غلبت الحكاية على الغائب، و{آباؤنا} عطف على الضمير في {كنا} لأن المفعول جرى مجرى التوكيد {لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} أي البعث {نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قدم هنا {هذا} على {نحن وآباؤنا} وفي المؤمنون {نحن وآباؤنا} على {هذا} ليدل على أن المقصود بالذكر هو البعث هنا وثمة المبعوثون {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم {قُلْ سِيرُواْ في الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} أي آخر أمر الكافرين.
وفي ذكر الإجرام لطف بالمسلمين في ترك الجرائم كقوله تعالى: {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} [الشمس: 15] وقوله: {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لأجل أنهم لم يتبعوك ولم يسلموا فيسلموا {وَلاَ تَكُن في ضَيْقٍ} في حرج صدر {مّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم وكيدهم لك فإن الله يعصمك من الناس.
يقال ضاق الشيء ضيقًا بالفتح وهو قراءة غير ابن كثير وبالكسر وهو قراءته {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي وعد العذاب {إِن كُنتُمْ صادقين} أن العذاب نازل بالمكذب.
{قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم، وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} أي إفضال {عَلَى الناس} بترك المعاجلة بالعذاب {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه فيستعجلون العذاب بجهلهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} تخفي {صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون من القول فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم ولكن له وقت مقدر، أو أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه.
وقرى {تكنّ} يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السماء والأرض إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية ونظائرهما الرمية والذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ.
والمبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة.
{إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل} أي يبين لهم {أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابًا ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضًا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا يريد اليهود والنصارى.
{وَإِنَّهُ} وإن القرآن {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ} لمن أنصف منهم وآمن أي من بني إسرائيل أو منهم ومن غيرهم {إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم} بين من آمن بالقرآن ومن كفر به {بِحُكْمِهِ} بعدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكمًا، أو بحكمته ويدل عليه قراءة من قرأ: {بحكمه} جمع حكمة {وَهُوَ العزيز} فلا يرد قضاؤه {العليم} بمن يقضي له وبمن يقضي عليه أو العزيز في انتقامه من المبطلين العليم بالفصل بينهم وبين المحقين {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} لما كانوا لا يعون ما يسمعون ولا به ينتفعون، شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون، وبالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى.