فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}.
هذا الدرس ختام سورة النمل، بعد استعراض حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط عليهم السلام وهذا الختام متصل بمطلع السورة في الموضوع. والقصص بينهما متناسق مع المطلع والختام. كل قصة تؤدي جانبًا من جوانب الغرض الذي يعالجه سياق السورة كلها.
وهو يبدأ بالحمد لله، وبالسلام على من اصطفاهم من عباده، من الأنبياء والرسل، ومنهم الذين ورد قصصهم من قبل. يفتتح بذلك الحمد وهذا السلام جولة عن العقيدة. جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس، وأطواء الغيب؛ وفي أشراط الساعة ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
في هذه الجولة يقفهم أمام مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس، لا يملكون إنكار وجودها، ولا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة، تأخذ عليهم أقطار الحجة، وأقطار المشاعر؛ وهو يسألهم أسئلة متلاحقة: من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟ من جعل الأرض قرارًا، وجعل خلالها أنهارًا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزًا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرعهم: أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يدعوا هذه الدعوى. لا يملكون أن يقولوا: إن إلهًا مع الله يفعل من هذا كله شيئًا؛ وهم مع هذا يعبدون أربابًا من دون الله!
وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم، يستعرض تكذيبهم بالآخرة، وتخبطهم في أمرها، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع. ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر. وكأنما يهز قلوبهم هزًا ويرجها رجًا.
وفي نهاية الجولة يجيء الختام أشبه بالإيقاع الأخير عميقًا رهيبًا، ينفض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من أمر المشركين المستهزئين بالوعيد، المكذبين بالآخرة، وقد وجه قلوبهم إلى مشاهد الكون وأهوال الحشر، وعواقب الطائعين والعصاة ويتركهم إلى مصيرهم الذي يختارون؛ ويحدد منهجه ووسيلته ولمن شاء أن يختار:
{إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين}.
ثم يختم الجولة كما بدأها بحمد الله الذي يستأهل الحمد وحده؛ ويكلهم إلى الله يريهم آياته؛ ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن:
{وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون}.
وتختم السورة بهذا الإيقاع المؤثر العميق.
{قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون}.
يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول الكلمة التي تليق أن يفتتح بها المؤمن حديثه ودعوته وجداله، وأن يختمه كذلك: {قل الحمد لله}. المستحق للحمد من عباده على آلائه، وفي أولها هدايتهم إليه، وإلى طريقه الذي يختاره، ومنهجه الذي يرضاه. {وسلام على عباده الذين اصطفى} لحمل رسالته وتبليغ دعوته، وبيان منهجه.
وبعد هذا الافتتاح يأخذ في توقيعاته على القلوب المنكرة لآيات الله، مبتدئًا بسؤال لا يحتمل إلا إجابة واحدة، يستنكر به أن يشركوا بالله هذه الآلهة المدعاة:
{آلله خير أم ما يشركون}.
وما يشركون أصنام وأوثان، أو ملائكة وجن، أو خلق من خلق الله على أية حال، لا يرتقي أن يكون شبيهًا بالله سبحانه فضلًا على أن يكون خيرًا منه. ولا يخطر على قلب عاقل أن يعقد مقارنة أو موازنة. ومن ثم يبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف، لأنه غير قابل أن يوجه على سبيل الجد، أو أن يطلب عنه جواب!
ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر، مستمد من واقع هذا الكون حولهم، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم:
{أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون}.
والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها، وهي أصنام أو أوثان، أو ملائكة وشياطين، أو شمس أو قمر، فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه، مخلوق بذاته، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها، كفيلًا بإلزام الحجة، ودحض الشرك، وإفحام المشركين. وما يزال هذا السؤال قائمًا فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد، ويتضح فيه التدبير، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة، مُلجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد، الذي تتضح وحدانيته بآثاره. ناطق بأن هناك تصميمًا واحدًا متناسقًا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه. فلابد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة.
إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير.
{أم من خلق السماوات والأرض}. {وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها}.
والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها، ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر، بهذا القدر، الذي توجد به الحياة، على النحو الذي وجدت به، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق، وبهذا التقدير المضبوط. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: {وأنزل لكم} والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم، منظورًا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون:
{فأنبتنا به حدائق ذات بهجة}.
حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة، ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وأن تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلًا على معجزة الحياة النامية في الشجر وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر:
{ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} وسر الحياة كان وما يزال مستغلقًا على الناس. سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان. فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول: كيف جاءت هذه الحياة، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان. ولابد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور.
وعندما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إِثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير، يهجم عليهم بسؤال:
{أَإِله مع الله}.
ولا مجال لمثل هذا الادعاء؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان، وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبًا، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله، فيعبدونها عبادة الله: {بل هم قوم يعدلون}.
ويعدلون. إما أن يكون معناها يسوون. أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة. وإما أن يكون معناها: يحيدون. أي يحيدون عن الحق الواضح المبين. بإشراك أحد مع الله في العبادة؛ وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق. وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق!
ثم ينتقل بهم إلى حقيقة كونية أخرى، يواجههم بها كما واجههم بحقيقة الخلق الأولى:
{أم من جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزًا}.
لقد كانت الحقيقة الكونية الأولى هي حقيقة خلق السماوات والأرض. أما هذه فهي الهيئة التي خلق عليها الأرض. لقد جعلها قرارًا للحياة، مستقرة مطمئنة صالحة يمكن أن توجد فيها الحياة وتنمو وتتكاثر. ولو تغير وضعها من الشمس والقمر؛ أو تغير شكلها، أو تغير حجمها، أو تغيرت عناصرها والعناصر المحيطة في الجو بها، أو تغيرت سرعة دورتها حول نفسها، أو سرعة دورتها حول الشمس، أو سرعة دورة القمر حولها. إلى آخر هذه الملابسات الكثيرة التي لا يمكن أن تتم مصادفة، وأن تتناسق كلها هذا التناسق، لو تغير شيء من هذا كله أدنى تغيير، لما كانت الأرض قرارًا صالحًا للحياة.
وربما أن المخاطبين إذ ذاك لم يكونوا يدركون من قوله تعالى: {أم من جعل الأرض قرارًا} كل هذه العجائب. ولكنهم كانوا يرون الأرض مستقرًا صالحًا للحياة على وجه الإجمال؛ ولا يملكون أن يدعوا أن أحدًا من آلهتهم كان له شريك في خلق الأرض على هذا المنوال. وهذا يكفي. ثم يبقى النص بعد ذلك مفتوحًا للأجيال؛ وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئًا من معناه الضخم المتجدد على توالي الأجيال. وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول، على توالي الأزمان!.
{أم من جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا}.
والأنهار في الأرض هي شرايين الحياة، وهي تنتشر فيها إلى الشرق وإلى الغرب، وإلى الشمال وإلى الجنوب، تحمل معها الخصب والحياة والنماء. والأنهار تتكون من تجمع مياه الأمطار وجريانها وفق طبيعة الأرض. والله الذي خلق هذا الكون هو الذي قدر في تصميمه إمكان تكون السحب، ونزول المطر، وجريان الأنهار. وما يملك أحد أن يقول: إن أحدًا سوى الخالق المدبر قد شارك في خلق هذا الكون على هذا النحو؛ وجريان الأنهار حقيقة واقعة يراها المشركون. فمن ذا أوجد هذه الحقيقة؟ {أإله مع الله}.
{وجعل لها رواسي}.
والرواسي: الجبال. وهي ثابتة مستقرة على الأرض. وهي في الغالب منابع الأنهار، حيث تجري منها مياه الأمطار إلى الوديان؛ وتشق مجراها بسبب تدفقها من قمم الجبال العالية بعنف وقوة.
والرواسي الثابتة تقابل الأنهار الجارية في المشهد الكوني الذي يعرضه القرآن هنا والتقابل التصويري ملحوظ في التعبير القرآني. وهذا واحد منه. لذلك يذكر الرواسي بعد الأنهار.
{وجعل بين البحرين حاجزًا}.
البحر الملح الاجاج، والنهر العذب الفرات. سماهما بحرين على سبيل التغليب من حيث مادتهما المشتركة وهي الماء. والحاجز في الغالب هو الحاجز الطبيعي، الذي يجعل البحر لا يفيض على النهر فيفسده. إذ أن مستوى سطح النهر أعلى من مستوى سطح البحر. وهذا ما يحجز بينهما مع أن الأنهار تصب في البحار، ولكن مجرى النهر يبقى مستقلًا لا يطغى عليه البحر. وحتى حين ينخفض سطح النهر عن سطح البحر لسبب من الأسباب فإن هذا الحاجز يظل قائمًا من طبيعة كثافة ماء البحر وماء النهر.