فصل: مطلب في الرضاع والحكم الشرعي فيه ومعنى الأشد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وخلاصة القصة قال الأخباريون إن كاهنا من قوم فرعون أخبره بأن هلاكه وملكه سيكون على يد رجل يولد من بني إسرائيل، وأشار عليه أن يأخذ حذره، ويستعد لعاقبة الأمر لأنه واقع لا محالة، وقد رعب فرعون من هذا الخبر، فرأى غضب اللّه عليه أن يأمر بقتل كل ولد ذكر يولد من بني إسرائيل، من تاريخ إخباره من قبل الكاهن لسلامة نفسه وملكه، وهذا من فظاعة عتوه وبغيه وكبير كبريائه وطغيانه وكثير جهله وحمقه لشدة حرصه وطمعه في الدنيا اقتداء بأخيه النمرود حيث فعل فعله هذا حينما أخبره الكاهن بمثل ما أخبر فرعون، وصار يقتل الأولاد ويترك الإناث، ولكن اللّه تعالى لم يسلطه على إبراهيم، وقد كان هلاكه بسببه كما ستأتي قصته في الآية 83 من سورة الأنعام في ج 2، مع أنه يعلم أن لا راد لما قضى اللّه ولا مانع لما أراده، ولكن تهالكه على الملك أعمى بصره وبصيرته، وإن أخذه يقول الكاهن دليل على قلة عقله، لأنه إن صدقه لم ينفعة القتل، لأنه قال له سيكون ذلك، وإن كذبه فلا معنى للقتل، قالوا عين حراسا وقوابل من القبط على نساء بني إسرائيل، وأمرهم بأن يذبحوا كل مولود ذكر ويتركوا الأنثى، وقد أقره وزراؤه على ذلك وعظماء جنوده أيضا، ولهذا خطأهم اللّه جميعا وعمهم بعذابه، قالوا ولما حملت أم موسى كتمت أمرها عن جميع الناس حتى عن ذويها، وكانت إحدى القوابل صاحبة لها فلما جاءها المخاض حضرت فولدتها فرأت ما هالها من نور عينيه، وارتعش كل مفصل منها ورجف فؤادها، فقالت لأمه هذا واللّه عدوّنا الذي أخبر به الكاهن، لأنها قبطية، ولكن أحببته حبا شديدا، فاحتفظي به عن أعين الناس، وسأكتم أمره، وخرجت من عندها.
فتسابق لها الحراس وسألوها، فأنكرت عليهم، ثم تسارعوا إلى الباب ليروا هل فيه امرأة والدة، فرأتهم أخته وقالت لأمها ها هم أولاء الحراس بالباب، فارتبكت ولفته بخرقة وطرحته في التنور، ومن دهشتها نسيت أن فيه نارا، فدخل الحراس وتحرّوا فلم يجدوا شيئا، ورأوا التنور يلتهب نارا، فقالوا ماذا أدخل عليك القابلة وأنت غير حبلى؟ قالت إنها صاحبة لي وتزورني أحيانا، ولما خرجوا بادرت إلى التنور فوجدته يلعب ولم يصبه شيء، فأخرجته، وهذا أول دواعي الحفظ الإلهي، إذ أن القبطية كتمت أمره والنار انقلبت عليه بردا وسلاما، وصارت ترضعه سرا وهي خائفة وجلة من شرطة فرعون الذين يباشرون التحري صباح مساء، فألقى اللّه في قلبها أن تفعل بما ألهمت، فاصطنعت تابوتا عند نجار قريب منها ووضعته فيه وألقته في نهر النيل، فهمّ النّجار أن يخبر به الشرطة فأمسك اللّه لسانه، فجعل يشير إليهم بيده فلم يفهموا، فأوجعوه ضربا ليخبرهم بما يريد وأراد أن يفهمهم بالإشارة فأعماه اللّه، فأشبعوه ضربا ثم تركوه في الأرض، ولم يعلموا أن لسانه أمسك وبصره عمي، فبقي حيران في نفسه، فقال في قلبه إن رد اللّه علي بصري ولساني لأسعين على حفظه أينما كان ولأكونن في خدمته، ولأكتمن أمره، فرد اللّه عليه بصره ولسانه لعلمه بصدق نيته، فقال يا رب دلني عليه، فألقى في قلبه أنه في بيت فرعون، فذهب إليه وآمن به وصدقه بمجرد رؤيته له، لما تفرس فيه من الخير، وألقى في قلبه مودته ونصرته، وهذا هو مؤمن آل فرعون.
وقيل إنه ابن عمه الآتي ذكره في الآية 27 من سورة المؤمن في ج 2 وفي الآية 19 من هذه السورة.
قالوا وكان عند فرعون بنت هي أكرم الناس عليه يقضي لأجلها في كل يوم ثلاث حاجات وكانت برصاء أعيا الأطباء شفاؤها، فأخبره السحرة بأنها لا تبرأ إلا بريق شبه إنسان من البحر، ويكون ذلك في يوم كذا عند شروق الشمس، وفيه غدا فرعون إلى مجلس له كان على ضفة النهر المار في قصره، ومعه آسية بنت مزاحم زوجته وبنته المذكورة وجواريها، فرأى فرعون شيئا طافيا على وجه الماء، فأمر ملاحته فأتوا به فإذا هو تابوت من خشب، فعالجوا فتحه فلم يقدروا، فأخذته آسية ففتحته وإذا فيه صبي يمص رزقه من إصبعه، والنور ساطع بين جبينه، ورأت بنت فرعون لعابه بسيل من شدقيه، فأخذته ولطخت به برصها فبرئ من ساعته، فأحبّته حبا شديدا، وصارت تقبله وتضمه إلى صدرها وكذلك آسية، وسمع ملأ فرعون به، فقال غواتهم أيها الملك نخشى أن يكون هذا هو المولود الذي أخبرنا به بالنظر لما نتوسم به، وأشاروا بقتله وأجمعوا على ذلك، وكانت آسية حين أخرجته من التابوت سمته موسى لأنه كان طافيا بين الماء والشجر، الماء بلسان القبط معناه موو الشجر سا، فقالت إن الذي أخبرتم به من بني إسرائيل، وهذا لا يعلم أنه منهم، والذي أخبرتم به من مواليد هذه السنة، وهذا ابن سنتين وخطأت رأيهم، واستوهبته لنفسها من فرعون، فوهبه لها وأجمعت هي وتبنته على حبه، وهذا مغزى قوله تعالى: {وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} اتركه هو {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قال تركته لك لا لي، انه عبراني من الأعداء كيف أخطأه الذبّاحون، وقد جاء في الحديث لو قال كما قالت لهداء اللّه كما هداها، ولكن من طبع على قلبه لا هادي له، ثم التفتت آسية إلى الغواة الذين أشاروا بقتله، وانتهرتهم بما قص اللّه تعالى بقوله: {لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} والتفتت إلى فرعون منتحلة سببا آخر وقالت، إنك أمرت بذبح أولاد هذه الأرض وقد أتانا من أرض اخرى، ثم جهلت الوزراء فقالت {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 9 انه هو المخبر به من قبل الكهنة، وهذه الأسباب الثلاثة مانعة من كونه هو، لانه لم يعلم انه من بني إسرائيل وهو في ارض غير ارض مصر، وهو ابن سنتين والمأمور بذبحهم أولاد هذه السنة، وكان عمره عليه السلام إذ ذاك ثلاثة أشهر، لكن الأنبياء يشبون بالشهر شباب الصبي من غيرهم بسنة بحكمة ربانية، فسكت فرعون وملؤه، ولم يردوا عليها.
واعلم ان هذا التفسير الذي جرينا عليه أولى من جعل وهم لا يشعرون حالا من آل فرعون، وجعل جملة إن فرعون وهامان اعتراضية، وأنسب بالمقام، وأوفق للسياق، واشيع للمعنى، قالوا وكانت آسية من خيار الناس ومن بنات الأنبياء، ترحم المساكين وتتصدق عليهم، والقى اللّه محبته في قلب فرعون ايضا فحقق اللّه فيه ظن آسية لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة، وقيل في المعنى:
في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النحابة ساطع البرهان وحقق اللّه ظن فرعون وقومه أيضا قال:
إذا لم يكن عون من اللّه للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهاده

قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا} من الصبر ناسيا ما نفث فيه من الإلهام الإلهي خاليا من كل شيء، ملآن بذكر موسى إذ بلغها أنه وقع بين يدي عدوه، وانتهكها الندم على ما فعلت بيدها، حتى أسلمته لعدوه وأنساها عظم بلاء الفقد ما كان عهد إليها من قبل اللّه بحفظه، وبلغ بها الحال إلى {إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} تصرح للناس علنا أنه ابنها لما دهمها من الضجر وأنه هو ابن ثلاثة أشهر وإسرائيلي ومن أرض مصر، وأنها صنعت ما صنعت من شدة وجلها عليه {لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها} فثبتناه بإلقاء الصبر الجميل فيه، وربط القلب تقويته بايقاع الصبر فيه {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 10 بوعدنا المصدقين فيه.
قال يوسف بن الحسين أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبشرت بشارتين، فلم ينفعها الكل حتى تولى اللّه حياطتها، فربط على قلبها وفي هذه الآية من البلاغة ما لا يخفى.
{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ} مريم بنت عمران {قُصِّيهِ} تتبعي أثره بدقة واعلمي خبره بسر وأخبريني حاله فذهبت إلى ديار فرعون {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} بعد بحيث كأنها لم تنظر إليه، ولا يهمها شأنه، وصارت تنظره اختلاسا، بطرف عينها بحيث تري الغير أنها غير عابئة به {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 11 أنها أخته أو أنها تنظر إليه، ولما أراد اللّه انجاز وعده برده إلى أمه، منعه من أن يقبل ثدي المراضع اللاتي أحضرن لإرضاعه قال تعالى: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ} مجيء أخته، ولما رأت أخته أن أمره أهمهم لكثرة ما أحضرن له من المرضعات وهو ينقلب من يد زوجة فرعون إلى يد ابنته فيقبلانه ويضمّانه إلى صدرهما، تسربت بين المرضعات وتقدست {فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} 12 بالتربية والغذاء والنظافة والإخلاص فيوضعونه ويضمّونه كما تريدون، وهذا الطلب على طريق العرض بلين ورفق وتؤدة، قالوا من هي؟
قالت أرشدكم إلى امرأة قتل ولدها وأحب شيء لها أن ترضع ولدا، قالوا وكان هامان يسمع قولها، فقال إنها عرفته فلتدلني على أهله لأنها قالت وهم له ناصحون، فأمسكوها، قالت إني أردت أنهم ناصحون للملك لا له، وقد قلت هذا رغبة في سرور الملك، لأني رأيت زوجته وبنته قد أهمهما أمره فيتداولانه ويضمّانه على صدرهما، وأن الملك قد أخذه وضمه إلى صدره، وهو يبكي.
وهذا أيضا من أسباب حفظ اللّه تعالى له إذ أنطقها بما أسكتهم: ثم قالت لهم بعنف وشده غضب اعلموا أنا متصلون بالملك يسوءنا ما يسوءه ويسرنا ما يسره، وأرادت أن تذهب من بينهم حنقا لما سمعت من قول هامان، فتمسكوا بها وقالوا لها من هي هذه المرأة؟ قالت هي أمي، قالوا هل لها ولد؟ قالت نعم قالوا ما اسمه قالت هارون ولد في السنة الماضية التي لا يقتل فيها الأولاد، قالوا الآن صدقت، فأتينا؟؟؟ بها فانطلقت مسرعة وأخبرت أمها الخبر كله، وجاءت بها فأعطوها الولد، فالنقم ثديها حالا إذ عرفها أنها أمه من ريحها، فقالوا لها ولم امتصّ ثديك توأ؟؟؟ مع أنا أكثرنا عليه المراضع فلم يأخذ ثدي أحد منهم؟ قالت إني امرأة طيبة اللبن والرائحه لم أوت بصبي لم يقبل ثدي مرضعة إلا وقبل ثديي، وان شئتم فجربوا، فأعطوه لها واشترطوا كل يوم دينارا.

.مطلب في الرضاع والحكم الشرعي فيه ومعنى الأشد:

وقد جاء في الخبر عن سيد البشر «ليس للصبي خير من لبن أمه أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري في الولد وأثر حمقها يظهر يوما» أي فيه وجاء في حديث «آخر الرضاع يغير الطباع» وقالوا العادة جارية بأن من رضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير أو شر الحكم الشرعي جواز الإرضاع لحاجة ولغير حاجة، وجواز أخذ الأجرة عليه عدا الأم فلا يجوز أخذ الأجرة على إرضاع ولدها في شريعتنا، ولا تجبر على إرضاع ابنها إلا إذا كان لا يقبل ثدي غيرها، ولعله كان في شريعتهم جائزا وهو من قبيل اختلاف الشرائع في الفروع، وإذا كان لم يجز عندهم أيضا فيكون أخذها الأجرة من قبيل التقية حرصا على إمساك ولدها، ولئلا يعرفوها أنها أمه، وبقيت ترضعه إلى الفطام، وتردد عليه إلى بلوغه المراهقة، هذا فعل اللّه أيها الناس بحفظ عباده وإنجاز وعده لهم، فتأملوا رحمكم اللّه كانت تريد أن تراه وتعطي ما يريدونه منها فأخذته بالأجر، وكانت هي أحق بإعطاء الأجر، ألا له الخلق والأمر.
قال:
وإذا العناية لاحظتك عيونها ** نم فالمخاوف كلهن أمان

قال تعالى: {فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} فرحا به {وَلا تَحْزَنَ} على فراقه ولا يدوم أسفها عليه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} إنجازه لا يبدل ولا يغيّر {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 13 ذلك فيرتابون فيه أو يشكون فيحرمون من إنجازه لعدم تعلقهم باللّه تعلقا خالصا، لأن منهم الجاحدو المنكر ومنهم المتردد، وكلهم خاسرون هالكون والناجحون هم المخلصون الموقنون.
وفي هذه الآية تعريض لأم موسى بسبب ما فرط منها من الجزع، مع أن اللّه تعالى أمتها عليه، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وهو ثلاثون سنة {وَاسْتَوى} كمل عقله واعتدل رأيه، وبلغ سن الأربعين {آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} نبوة وسلطانا وفقها ومعرفة في الدين والدنيا {وَكَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الحسن {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 14 من سائر الناس كما جازينا أم موسى إذ قبلت أمرنا وألقت ولدها في البحر، فرددناه عليها وجعلناه رسولا خليلا.