فصل: مطلب وفادة موسى على شعيب وفي الإجارة وعقد بنته له:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ} 24 عاجز لا يقدر أن يحضر إلى محل الماء، وذكرنا له بأن اسمه شعيب من نسل إبراهيم، وقرىء رعاء بضم الراء على خلاف القياس، لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وطراح، وإذا استعمل بمعنى الجمع على القراءة الشاذة فهو اسم جمع لا جمع، وقيل جمع أصلي والضم فيه بدل من الكسر، كما أبدل من الفتح في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درّة الغواص، والمشهور منها ثمانية نظمها صدر الأفاضل وقيل الزمحشري بقوله:
ما سمعنا كلما غير ثمان ** هي جمع وهي في الوزن فعال

فرباب وفرار وتؤام ** وعرام وعراق ودغال

وظؤار جمع ظئر وبساط ** جمع بسط هكذا فيما يقال

والرباب جمع ربى الشاة الحديثة العهد بالنتاج، والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية، والتؤام جمع توءم المولود مع قرينته، والعرام بمعنى العراق جمع عرق وهو العظم الذي عليه بقية لحم، والرفال جمع رفلة الأنثى من أولاد الضأن، والظؤار جمع ظئر الموضع، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها، فاحفظ هذا لعلك لا تجده فتحرم فائدته.
فما سمع كلامهما أخذته الأريحبة، وكان القوم انتهوا من السقي وذهبوا {فَسَقى لَهُما} أغنامهما، لا من فضل الحياض بل تقدم إلى البئر ورفع بيده الحجر الذي سدّوا فمه، وهو لا يرفعه إلا عشرة رجال، وأخرج ماء جديدا لها، فشربت حتى صدرت فأخذاها وذهبا ولم يتكلما معه وبقي هو وحده لا يعرف ماذا يفعل {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظل شجرة قريبة من البئر فاستظل بها من وهج الشمس وقد أحس بالتعب والجوع {فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} 25 أي مطلق خير فأنا محتاج إليه، ووضع الحاضر موضع المستقبل لشدة ثقته باللّه.
قال ابن عباس لقد افتقر موسى إلى شق تمره وهو أكرم الخلق على اللّه في زمانه، فما بال الناس عندهم الكثير ولا يشكرون اللّه الذي أنعم عليهم به؟ وما قيل إن المراد أنه التجأ إلى ربه عليه السلام بقوله لما أنزلت إلى من خير الدين صرت محتاجا للدنيا لا أراه لايتأ بحضرته وما احتج به صاحب هذا القول من أنه أراد به إظهار التبجح والشكر غير وجيه واللّه أعلم وفي هذه الآية دليل على جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المنقشفة مستدلين بقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا راحة في الدنيا، لأن المراد من الحديث أنه راحة مطلقة في الدنيا وخاصة لدى الأبرار التشوقين إلى ربهم فإنهم يرون الدنيا كلها تعبا ونصبا، لا راحة من التعب نفسه، وقد أنس عليه السلام بالشكوى لما لحقه من الجوع، ولا نقص فيها عليه بالنسبة لمرتبته، لأنها إلى مولاه لا إلى غيره، ومن هذا قول يعقوب عليه السلام جوابا لأولاده {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} الآية 16 من سورة يوسف ج 2، أي لا ينتقد من يشكو همّه لربه.
الحكم الشرعي: جواز الشكوى لمن ألمّت به حاجة وكان عاجزا عن قضائها لمن يأنس منه أنه يجيب شكواه أو يغلب على ظنه ذلك، هذا ولما وصلتا بأغنامهما إلى دار أبيهما رأى عليه السلام أو اعتقد على القول بأنه أعمى، وأبصر على القول بأنه بصير وهو الصحيح، راجع الآية 84 من سورة الأعراف المارة تجد قصة عماه ومعجزاته مفصله هناك أي شاهد الأغنام بطانا بخلاف عادتها، فسألهما عن ذلك، فقالتا وجدنا رجلا صالحا فسقى لنا، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه، فذهبت نحوه قال تعالى: {فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ} لأنها جاءت تدعوه لضيافتها ولم تدعه قبلا عند ما سقى لهما ولا تعلم أيجيب دعوتها أم لا، وكانت مستترة بكم درعها، مستحية من مخاطبته، وهذا دليل على إيمانها وشرف عنصرها {قالَتْ} له وهي واضعة يدها على وجهها {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا} فكره عليه السلام الإجابة إذ كانت بمقابل فعل، لأنها صرحت له بذلك، وهي إنّما قالت ذلك لئلا يرتاب بكلامها، وإذ أسندت الدعوة إلى أبيها وكان عليه السلام بحاجة للراحة والأكل، أجاب دعوتها ومشى وراءها لأن الدليل عادة يتقدم على المدلول إلا أنه لما رأى الريح تضرب ثوبها فتمثل ردفها، كره أن يرى ذلك منها لاسيما وقد رأى حياءها وعلم شرفها، فقال لها تأخرى وامشي خلفي، وإذا أخطأت الطريق فاهديني إليه بكلامك، فعرفت المغزى من ذلك لما شاهدته من عبث الريح بثوبها، فتأخرت وبقيا يمشيان هكذا وهي ترشده بقولها يمينا شمالا حتى وصلا إلى دار شعيب عليه السلام.
قال تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُ} موسى وجده قد هيأ العشاء وبعد أن تبادلا التحية، قال شعيب اجلس يا فتى تعشى قال أعوذ باللّه، قال شعيب ولم لست بجائع؟ قال بلى ولكن أخاف ان هذا الطعام جزاء لما سقيت وإنا أهل؟؟؟ لا نطلب على عملنا الأخروي أجرة، فقال شعيب لا واللّه ولكن عرفت أنك؟؟؟ ريب عن هذه الديار ولا تعرف أحدا، وكانت عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف إطعام الطعام، فجلس وأكل وتحدث معه وسأله عن مجيئه وسببه، فذكر له موسى قصته {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} من بداية أمره إلى فراره {قالَ} شعيب موسى عليهما السلام {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 26 فرعون قومه حيث لا سلطان له على مدين {قالَتْ إِحْداهُما} وهي التي دعته لما سمعت القصة وعرفت أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} لرعي غنامنا كي يبقى هنا آمنا من عدوه، ثم مدحته لترغب أباها به فقالت {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 27 ذكرت قوته لرفعه الحجر عن فم بئر وحده، وأمانته لأنه أمرها أن تمشي خلفه حتى لا يرى منها شيئا، وهاتان لخصلتان مطلوبتان في الأجير، وجاء الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمين قوي؟؟؟ معروف، وضربت في هذه الآية قياسا من الشكل الأول، فقول هو قوي أمين، وكل قوي أمين لائق للاستيجار، وجعل {خير} في هذه الآية اسما لإن، سمع أنه؟؟؟ اسم معنى لا اسم ذات- للاهتمام بأمر الخبرية، جاء كذلك على حد قوله:
ألا إن خير الناس حيا وهالكا ** أسير ثقيف عندهم بالسلاسل

العناية سببت التقديم، وسببت أحقية كون خير خبرا والقوي اسما من حيث صناعة، وتدل هذه الآية على جواز الإجارة عندهم كما هي عند كل ملة لأنها من روريات الناس ومصلحة الخلطة، وقد أجمعت الأمة على جوازها عدا ابن عليه الأصم فإنهما لا يجوزانها استبدادا وخرقا للإجماع، وجاء في الإكليل على هذه الآية؟؟؟ على منع الإجارة المتعلقة بالحيوان عشر سنين، لأنه يتغير غالبا لعل هذه التي لا يجيزانها لا مطلق الإجارة إذ لم يختلف فيها اثنان.

.مطلب وفادة موسى على شعيب وفي الإجارة وعقد بنته له:

قال تعالى حاكيا عن نبيه شعيب ما قاله لموسى عليهما السلام {قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي} نفسك لترعى أغنامي مدة {ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} تفعلها علي لا واجب عليك {وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بالزام العشر إذا لم تتبرع بها عفوا ومعروفا تديه لي، وأظن أنك في المدة التي تقضيها لدي {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 28 في صحبتك ومعاملتك والوفاء لك.
الحكم الشرعي ينبغي أن يكون المهر مالا متقدّما لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} الآية 24 وقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ} الآية 3 من سورة النساء في ج 3 وان يشتمل العقد على الإيجاب والقبول، والإذن من الولي، ولستئذان المخطوبة وبيانها وأن يكون المسمى بالعقد لها لا لأبيها، وعليه يكون هذا العقد مخالفا لشريعتنا، لأن العقد على الرعي لأبيها لا لها، ولأن الصداق خاص بالزوجية لا بالولي، إلا أن يقال أن هذا العقد الذي جرى على الشرطين المذكورين في الآية اللذين أحدهما للأب والثاني للزوج، غير العقد الذي سمي عليه المهر للزوجة بعد انقضاء الأجل وعند الزفاف، وأنه جائز في شريعتهم، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} الآية 52 من المائدة في ج 3، ولو أنه شرط رعي الغنم لها لجاز لأنه يكون بمقابلة مال، وعقد على مدة معلومة، أو أن قوله الأول عبارة عن الوعد بالزواج لا غير، ثم عقد له بعد تمام المدة على بنت معينة، ومهر معلوم إعطاء لها من ماله بمقابلة رعيه أغنامه تلك المدة، واللّه أعلم.
مسألة:
لو تزوجها على تعليم القرآن أو خدمة لها سنة مثلا صح العقد ووجب مهر المثل لها عليه، لعدم تقويم التعليم والخدمة، هذا إذا كان الزوج حرا فإن كان عبدا فلها الخدمة، لأن خدمة العبد ابتغاء المال فتضمن الخدمة تسليم رقبة الخادم إلى المخدوم، والأمر ليس كذلك في الحر، ومسألتنا هذه في الأحرار الأبرار.
{قالَ} موسى لشعيب عليهما السلام {ذلِكَ} الذي عاقتدني عليه وعاهدتني فيه قائم ثابت {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} فلك ما شرطت علي من الرعي تلك المدة، وإليّ ما شرطت على نفسك من التزويج واني {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ} بالمطالبة بالأكثر إن لم أقضه من نفسي، أراد عليه السلام أن لا يقيد نفسه بالأكثر حتى إذا أكمله يكون تفضلا منه لا لازما عليه، وقال كل منهما بعد إقرار هذا العقد ورضائهما به {وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ} 29 رقيب وشهيد علينا في ذلك، إذ لا أحد لديهما سوى ابنتين، ويشترط بشريعتنا لصحة هذا العقد حضور شاهدين، هذا وكل منهما واثق بصاحبه على ما الزم نفسه من القيام بالشرط، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ} لم يبينه تعالى ولكن؟؟؟ العهدية تفيد انه الأكثر، واللّه اعلم.
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى قدم على خير العرب، فأسأله فقدمت، فسألت ابن عباس، فقال قضى أكثرها وأطيبها، لأن رسول اللّه إذا قال فعل.
وروي عن أبي ذر مرفوعا إذا سألت؟؟؟ المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت، فقالت يا أبت استأجره، متزوج صغراهما وقضى أوفاهما، قالوا واسمها صفورا، ولما تعاقدا قال لابنته أعطيه عصاي يدفع بها السباع عن الغنم، وكانت من آس الجنة، وكان حملها آدم عليه السلام ثم توارثها الأنبياء من بعده حتى وصلت إلى شعيب، ثم قال موسى لزوجته بعد الدخول بها قولي لأبيك يجعل لنا بعض الغنم نتمول بها، فقالت له قال لكما كل ما يولد في هذا العام أبلق وبلقاء، فأوحى اللّه إلى موسى بطريق الإلهام لأنه لم يتنبأ بعد إذ كان عمره اثنتين وعشرين سنة- أن اضرب بعصاك لماء ثم اسق الأغنام، ففعل فولدت كلها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن هذا؟؟؟ ساقه اللّه لموسى وزوجته، فوّفى لهما بشرطه وأعطاهما كل ذلك.
وروي؟؟؟ شعيبا أوصى موسى مرة أن لا يأخذ غنمه ذات اليمين من محل عينه له وان؟؟؟ فيه كلأ كثير، لأن فيه تنينا آفة كبيرة من الحيات، فلما ذهب بها إلى ذلك المحل أخذت ذات اليمين ولم يقدر على ردها، فتركها ومشى في أثرها، إذا عشب رديف لم ير مثله، فنام وتركها، فلما أقبل التنين تلقته العصا فقتلته عادت إلى جنب موسى دامية، فلما أفاق وأبصر ما وقع ارتاح وأخبر شعيبا بذلك عند رجوعه، ففرح وعلم ان سيكون لهذه العصا وموسى شأنا، وهذه مما عدوه معجزة لشعيب عليه السلام، لأن القرآن لم يذكر له معجزة- راجع الآية 84 من سورة الأعراف عن معجزات شعيب وما يتعلق بها- قالوا ولما أراد موسى أن يأخذ أهله إلى مصر حيث تفقد أخاه وأمه وأخته بكى شعيب وقال تتركنّي وقد كبرت وضعفت ووهنت قواي؟ فقال قد طالت غربتي عن أهلي ولا أعلم ماذا جرى عليهم، فبسط شعيب يده وقال يا رب بحرمة ابراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح واسحق الصفي ويعقوب الكليم ويوسف الصديق ردّ علي قوتي وبصري، وكان موسى يؤمن على دعائه، فرد عليه بصره وقوته، وهنا انتفى القول بعماه، لأنه كعمى يعقوب كما بيناه مفصلا في الآية المذكورة من الأعراف المارة، وله صلة في الآية 84 من سورة يوسف في ج 2 فراجعه، ثم أذن له بالمسير لمعذرته تلك وأوصاه بابنته، وذاك بعد تمام ثمانية عشرة سنة بعد زواجها {وَسارَ بِأَهْلِهِ} لجهة مصر.
واعلم أن التشوق الذي حدا بموسى لزيارة أهله حسا وظاهرا بعد ثمان وعشرين سنة هو في الحقيقة تشوق إلى اللّه معنى، إذ أزف الوقت الذي قدره لتشريفه بالنبوة والرسالة، ودنت منه أيام القرب والزلفى إلى ربه، إذ أكمل عمره الأربعين وصار لائقا للتحلي بأنوار النبوة العظمى، راجع الآية 41 من السورة المارة، وبأثناء سيره قدر عليه أن يضل الطريق ليكون سببا للهداية، وكان الوقت ليلا ومظلما ودخل في حيرة، فما أحسّ إلا وقد {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نارًا} أبصر نارا من الجهة التي تلي الطور، وكان البرد شديدا، وقد أخذ أهله الطلق فولدت وصار بحاجة ماسة لتدفئتها {قالَ لِأَهْلِهِ} التي لم يعد بإمكانها السير {امْكُثُوا} مكانكم هذا الخطاب لها ولخادمتها وابنها بالتبعية {إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ} عن الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ} آتيكم بشعلة {مِنَ النَّارِ} التي رأيتها {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} 30 تستدفئون بها، فامتثلوا أمره، فتركهم وذهب مسرعا {فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ} من ضفته اليمنى بالنسبة للمقبل اليه {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ} بسبب وقوع التكليم فيها، وقدست تلك البقعة لتشرف موسى بالنبوة فيها {مِنْ} ناحية {الشَّجَرَةِ} التي أسرق عليها نور الإله العظيم، فأضاء ما حولها، وجاءه النداء الإلهي منها قال ابن عباس هي شجرة عناب وقدست أيضا لذلك السبب ثم فسر ذلك النداء بقوله: {أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} 31 فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس، ورأى النور في هيئة النار، وخرطب بألطف خطاب، وصار مكلما شريفا لحضرة رب الأرباب، وقد أعطي ماسئل، وأمن مما خاف، وحظي بالألطاف، قيل لموسى عليه السلام كيف عرفت أنه نداء ربك؟ قال لأني سمعته بجميع أجزائي وعلمت أنه لا يجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الواحد القهار، والجذوة مثلتة الجيم، كالجثوة والرغوة والحضرة والصفوة والربوة والعشوة والنشوة والوجنة والخدعة والفلقة، أي تقرأ بالضم والفتح والكسر، وهي العود الغليظ سواء كان في رأسه نار كقوله:
وألقى على قيس من النار جذوة ** شديدا عليها حرها والتهابها

أو لم يكن كقوله:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ** جذل الجذا غير خوّار ولا دعر

الدعر بفتح الدال وكسر العين وبضم الدال وفتح العين العود إذا دخّن ولم يتّقد والخوار الزناد القداح، ومن الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و{مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من شاطىء الوادي بدل اشتمال لأن الشجرة ثابتة- فيه، وبعد أن توطن موسى عليه السلام لكلام ربه عز وجل أراد أن يريه معجزة على نبوته فخاطبه بقوله جل قوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ} فألقاها حالا دون أن يعرف المراد منها ونظر إليها {فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ} حية صغيرة، راجع تفسير الآية 10 من سورة النمل المارة {وَلَّى} ظهره {مُدْبِرًا} عنها {وَلَمْ يُعَقِّبْ} يرجع لأنه رآها كأنها لم تدع شجرة ولا حجرة إلا بلعتها، وصار يسمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والحجر في جوفها فناداه ربه {يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} 32 لاينالك مكروه منها ولا من غيرها، فرجع حالا وقد عادت العصا على حالتها الاولى راجع الآية 21 من سورة طه المارة، فأخذها بيده ثم قال له ربه {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} هو فتحة الثوب من حيث يدخل رأسه عند اللبس، وأراد منه أن يضعها تحت إبطه ليريه معجزة أخري، بحيث أنّ يده السراء {تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} برص، ففعل فإذا هي تبرق كالشمس، ولم يعرف كيف يتمكن من إعادتها لحالتها الأولى، إلا أنه لما عرف إعادة العصا لحالتها الأولى حال أخذها من الأرض، ففعل بيده مثل ما فعل بالعصا بان أعاد يده لإبطه، ثم أخرجها فإذا هي على حالتها الاولى، ولما كان عليه السلام لحقه خوف من هاتين المعجزتين ولاسيما العصا، أراد اللّه أن يعلمه ما يزيله عنه فقال: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} الخوف، ففعل فذهب عنه الروع وعرف من هذا أنه كلما هاله أمر ضم يديه إلى صدره فيزول خوفه بإذن اللّه تعالى، قال ابن عباس أمر اللّه نبيه أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الرعب وما من خائف بعد موسى إلا وبضع يده على صدره عند الخوف فيزول خوفه بإذن اللّه تعالى.